بقلم /راغدة عسيران
صدر مؤخرا كتاب "حكايتي مع المخيم" للأسير المجاهد الشيخ علي السعدي، أحد أبطال ملحمة مخيم جنين في ابريل/نيسان 2002، وهو الإصدار الثالث والثلاثين لمؤسسة "مهجة القدس"، ضمن سلسلة، "من فكر السجون وأدبه". الأسير المجاهد علي السعدي (الصفوري) من مواليد 1963 في مخيم جنين، متزوج وله 5 أبناء. تم اعتقاله في 12/4/2002 وحكم عليه الاحتلال 5 مؤبدات و50 عاماً.
في خضم المعارك البطولية التي يخوضها أبناء المخيم، لا سيما كتيبة جنين- سرايا القدس، الذراع العسكري لحركة الجهاد الإسلامي والحركات المقاومة الأخرى، للدفاع عن المخيم وأهله، والمشاهد الرائعة التي سطرها أهله، من شيوخ وأطفال وشباب ونساء، أثناء وبعد المعركة الأخيرة، والمواجهات المتتالية التي خاضها المخيم خلال السنوات الأخيرة، برز دور الحاضنة الشعبية للمقاومة بشكل جليّ، ما أكّد عليه قادة المقاومة والمراقبين، حتى اعتُبرت هذه الحاضنة من أهم عناصر الانتصار على العدوان الصهيوني الأخير.
في كتابه، قدّم الأسير المجاهد علي السعدي نظرة سريعة على مخيم جنين والملحمة البطولية التي خاضها أبناؤها في 2002 ضد الهمجية الصهيونية، وهي نظرة إضافية لأحد قادة المجاهدين الأبطال، الملقّب بـ"الحاج هاون"، الذي ركّز على تاريخ المخيم والحاضنة الشعبية للمقاومة والتلاحم بين المقاومين والأهالي، إضافة الى مشاهد أخرى خلال المعركة، ما يعطي بُعدا إضافيا لفهم كيف تكوّنت هذه الحاضنة الشعبية، ولماذا.
تأسست الحاضنة الشعبية للمقاومة في مخيم جنين وجواره على أسس ثابتة، أولها تهجير أهالي المخيم من منطقة حيفا والناصرة وبيسان وزرعين، التي احتلها الغزاة الصهاينة لإقامة كيانهم. وهو الأساس الذي تشترك فيه كافة مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، وخاصة التي أقيمت في فلسطين، في الضفة الغربية أو في قطاع غزة. ويضاف الى ذلك أن عدد سكانه، في تلك الفترة، لم يتجاوز 8 آلاف نسمة، ما سهّل "إستئناس الأهالي مع بعضهم بعضا" حيث كانت "تجمعهم قواسم مشتركة كثيرة"، أهمها أمل العودة الى ديارهم وبلداتهم المحتلة، ومصاهرة العائلات بعضها بعضا، "مما أدى الى تقوية العلاقات الأسرية في المخيم".
إلا أن المخيم احتضن أيضا ذاكرة المقاومة التي شارك فيها الشهيد فرحان السعدي الى جانب الشهيد عز الدين القسام، والذي كانت صورته تتصدر ديوان آل السعدي في المخيم. منذ الاحتلال عام 1967، اصطدم الصهاينة بذاكرة الشهيد فرحان السعدي: يذكر الأسير المجاهد علي السعدي ما قاله له ضابط مخابرات الاحتلال: "انكم إرهابيون، عندما دخلت على ديوان آل السعدي، رأيت صورة الشيخ فرحان السعدي... فعندما يرى الأولاد الصور من الطبيعي سيكونون أمثالك إرهابيين"، ويعلق: "فحتى صورة الشيخ فرحان يحسب العدو لها ألف حساب"، فبات رمزا للمقاومة "عند جميع الأهالي في المخيم خاصة أن أحفاده ما زالوا يرفعون راية المقاومة ويحافظون على إرثه".
كما اصطدم الصهاينة بالمقاومة الشعبية في المخيم ضد وجودهم ودخولهم اليه، منذ بداية الاحتلال. في سبعينيات القرن الماضي، كان شباب المخيم يرشقون قوات العدو "بوابل من الرصاص" كلما أرادت اقتحام المخيم، ثم تطورت المقاومة قبل انتفاضة "الحجارة" وصعود جيل مقاوم جديد الذي نفذ العمليات الفدائية كالتي نفذتها مجموعة من الشباب على موقف حافلات شركة "إيجد" (1978)، أو عملية طعن لجنود صهاينة في مدينة جنين (1982). ثم اندلعت انتفاضة "الحجارة" التي شهدت "نقلة وطنية قوية" ومن ثم انتفاضة الأقصى.
يروي الشيخ علي السعدي بعض تفاصيل معركة المخيم البطولية في 2002، حيث كان مسؤولا عن تصنيع "الهاون"، وكيف أصبح المخيم ملجأ المطاردين من قبل العدو، والذين لا تستطيع الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة اعتقالهم، بسبب وجودهم في المخيم. احتضن أهالي المخيم المطاردين وفتحوا بيوتهم للمقاومين، لا سيما الشهيدة أم العبد الزبيدي التي "احتضنت جميع المطاردين في بيتها باعتبار أن جميع المطاردين أبناؤها". يذكر أيضا الكاتب المجاهد أن "الأهالي كانوا لا يفرقون بين المطاردين سواء كانوا من المخيم أو من غيره" بسبب الثقة التي كانت بين المقاومة والأهالي.
لقد تميّزت مقاومة المخيم خلال تلك الفترة بالدفاع عن المخيم وأهله، وتنفيذ عمليات ضد المستوطنات والمستوطنين وجيش العدو وحواجزه، وتنفيذ عمليات استشهادية في الداخل المحتل عام 1948، وصناعة "الهاون" والمتفجرات. فاعتبر العدو هذا العمل "خطيرا ويجب القضاء عليه". فشنّ حملة اغتيالات واسعة في محافظة جنين، في حين كان الأهالي يقومون بدور كبير "في مراقبة ورصد المنطقة المحيطة" بورشة تصنيع "الهاون".
المشهد الثاني الذي أورده الأسير المجاهد هو المشهد الإعلامي ومحاربة العدو للإعلام المقاوم الذي ينقل الحقيقة عن المخيم وخاصة الدور المهم الذي قامت به الشهيدة شيرين أبو عاقلة، من فضائية "الجزيرة"، خلال تلك الملحمة، حيث كتب: "أصبحت شيرين تربطها علاقة عشق مع تراب المخيم.. وأنها شجرة نبتت في أرض المخيم الذي شاركته هموم أهاليه". لقد صورت شيرين أبو عاقلة اجتياحات المخيم وساندت الأهالي وفضحت أعمال الاحتلال.
والمشهد الثالث هو مشهد الأجهزة الأمنية التابعة (لسلطة رام الله) التي لم تكن في تلك الفترة منخرطة تماما في المشروع الأميركي الغربي كما هي اليوم، تساعد الاحتلال على قتل واعتقال المقاومين، رغم أنها كانت تلاحقهم وتعتقلهم بحجة حمايتهم وتضيّق على تحركاتهم في كل الضفة الغربية المحتلة.
في ختام كتابة، يكتب المجاهد على السعدي أن لديه قصصا كثيرة تخص هذه الأجهزة (الأمنية) وكيف كان تعاملها مع المقاومة، "لكن لحساسية الموضوع لا أستطيع التوضيح أكثر من ذلك، لأن الجميع يعرف ما كان يحصل، ولا أريد.. أن أشرح بوضوح مع الدلائل، وذلك لعدم خلق فتنة".
من خلال هذه المشاهد الثلاثة التي أوردها المؤلف الى جانب سرده لبعض أعمال المقاومة أثناء انتفاضة الأقصى وملحمة المخيم، يمكن العودة الى معركة "بأس جنين" التي خاضها المجاهدون قبل أيام في المخيم ضد العدوان الصهيوني الهمجي والتي أسفرت عن أنتصار المخيم على العدو، مرة أخرى، وذلك بفضل الله تعالى ثم بفضل أهله ووحدة المقاومين تحت راية مقاتلة العدو حتى التحرير.
فكانت عناوين هذه المشاهد الثلاثة موجودة في المعركة البطولية وما بعدها: الحاضنة الشعبية للمقاومة والمقاومين التي وصفها المجاهد السعدي ب"التلاحم" بين المقاومة والأهالي الذين "ترسخت لديهم فكرة أنه لا يمكن الرجوع والعودة الى أراضيهم إلا بالمقاومة"، ومسألة الإعلام الذي أظهر الكذب المتجذّر في إعلام العدو مقابل الحقيقة التي ينشر أخبارها المجاهدون عبر التقنيات الإعلامية الجديدة. وأخيرا دور الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية الذي توضّح أكثر أثناء "بأس جنين" حيث قامت بمنع وعرقلة المقاومة، وتذمّرت من الإعلام الذي واكب المقاومة وفضح كذب العدو، وتواصل الى اليوم عدوانها على المقاومين والمجاهدين في الضفة الغربية وتشوّش على الإعلام المقاوم.
تستحق ملحمة جنين البطولية في العام 2002 الكثير من الكتب بقلم أبطالها، كونها معركة مؤسسة لنمط من المقاومة الشعبية في مساحة جغرافية ضيقة، تلاحم فيها المجاهدون والفدائيون من كل الاتجاهات السياسية والفكرية ومن داخل وخارج المخيم، وامتزجت فيها العمليات المسلحة الدفاعية والهجومية والكمائن وتصنيع المتفجرات والهاون، ومشاركة الأهالي، النساء والأطفال خاصة، في صنع هذه الملحمة.
فلذلك، يأتي كتاب الشيخ المجاهد علي السعدي الصفوري، لينقل صور ومعلومات ومشاهد عايشها وتذكرها، ويؤرخ لمرحلة مهمة من تاريخ المقاومة الفلسطينية لا يمكن تجاهله أو تجاوزه. يمكن اعتبار هذا الكتاب، والكتب الأخرى التي ألّفها أسرى آخرون، تحرروا أم ما زالوا في سجون العدو، للحديث عن تجربتهم، أهم مادة لتأريخ المقاومة وبطولاتها وحفظ ذاكرة أبنائها. فتقع هذه الكتب في صلب ما يسمى "أدب المقاومة" أو "أدب الشعوب الأصلانية".
التعليقات : 0