الإنسان عنصر النهضة الأول.. بقلم تيسير الغوطي

الإنسان عنصر النهضة الأول.. بقلم  تيسير الغوطي
أقلام وآراء

غزة/الاستقلال:

يعتبر الإنسان أهم العناصر التي تقوم عليها حركة النهضة والتقدم والبناء وبمقدار تقدم ورقي هذا الإنسان يتقدم المجتمع الذي ينتمي إليه ويرتقي، وبمقدار تراجع وتخلف الإنسان يكون تراجع وتخلف المجتمع الذي ينتمي إليه سواء كان هذا المجتمع دولة أو حركة أو تنظيم أو حتى أسرة صغيرة، ولقد كان الإسلام وهو المنهج الرباني الصادر عن الحق الذي يعرف دقائق هذا الإنسان وخصائصه وما يصلحه وما يفسده، ما يصلحه ليقوم بدوره والمهمة التي أرادها المولى عز وجل منه في الأرض، وما يفسده ويعجزه عن القيام بما يحقق المهمة المناطة به من قبل خالقه عز وجل، لذا فعندما تم الالتزام بالمنهج الإسلامي والتطبيق الأمين لشرائعه وقوانينه، انتقل البدوي التائه في الصحراء المقدم طقوس العبادة والطاعة لإله يصنعه بنفسه ، ثم لا يلبث أن يأكله إذا ما ألم به الجوع والفقر، انتقل إلى ذلك الإنسان الراقي في قيمه وأخلاقه ومبادئه, القادر على قيادة العالم بأسره بعد أن قدم له كل أسباب الرقي والنهضة, وكثير هم المفكرون الذين بحثوا في سبب تأخر الأمة الإسلامية وانهيار حضارتها بعد سقوط دولتها المركزية وتفتتها، لينتهي بها المطاف كلقمة سائغة تتقاسمها القوى الاستعمارية الظالمة، ليكون ذلك منطلقاً لهم لتحديد الشروط والأسباب التي يمكن أن تعيد الأمة الإسلامية إلى سابق عهدها ومجدها بعد أن تعيد دورة حضارتها ونهضتها، ومن هؤلاء المفكرين مالك بن نبي والشهيد سيد قطب وعلي شريعتي والدكتور فتحي الشقاقي وغيرهم رحمهم الله جميعاً.

 

ومن الأسباب التي ذكرها هؤلاء المفكرون وأسهموا في شرح التفاصيل المتعلقة بها للنهوض والتحرر, الحرية بكافة أشكالها كحرية المعتقد والعبادة وحرية الرأي والتعبير وحرية النقد وحرية الاختيار للمسؤول والحاكم، وجود المساءلة والمحاسبة لكافة أبناء المجتمع من الفقير حتى الوزير وصولاً إلى رأس الهرم والسلطة الحاكمة، مع الالتزام بالشفافية الكاملة والمطلقة في التطبيق والتنفيذ، ومن تلك الأسباب التحرر من الخوف بكافة أشكاله إبتداءاً من بطش الحاكم والسلطة الحاكمة بالقتل في أعلى صوره, أو بالجوع والفقر في أدنى صوره مروراً بالسجن والاعتقال والتعذيب له ولأفراد عائلته كنوع من الضغط عليه للتراجع عن معارضة الحاكم والسلطة الحاكمة, سواء كانت معارضة لفظية أو قوليه أو عمليه إجرائية، ومن الأسباب الداعمة للنهضة والتحرر انتشار العلم والوعي ومحاربة الجهل والأمية كما الاستبداد والعبودية خاصة عبودية الشهوات والملذات الأرضية .

 

وكما أن الإنسان هو جوهر وعماد أسباب النهوض والتقدم الحضاري، فإن الإنسان هو جوهر وعماد الانتصار في المجال العسكري القتالي، وكان هذا واضحاً وجلياً في كل المعارك والحروب عبر التاريخ خاصة قبل ظهور الآلة العسكرية والصناعات العسكرية التي تنتج اليوم الآلاف المؤلفة من الأشكال المختلفة من الأدوات والأجهزة القتالية، حيث كانت الحروب تعتمد على شجاعة الجندي وقدرته على القتال سواء القدرة البدنية أو العقلية في الخطط والمراوغة، واليوم ورغم كل التقدم العسكري والتكنولوجي والاختراعات العسكرية المتقدمة والمتنوعة، فإن الإنسان (الجندي) يبقى هو عماد النصر والهزيمة في أي معركة، فالجندي المتسلح بالإرادة والعزيمة والقناعة بقضيته وعدالتها ووجوب الدفاع عنها والتضحية بكل ما يملك من أجلها سيهزم الجندي المقابل مهما امتلك من أدوات القوة والآلة العسكرية وتكنولوجيتها المتقدمة، والأمثلة على ذلك كثيرة في التاريخ الحديث وأبرزها ما جرى في ڤيتنام والجزائر القرن الماضي، وما يجري حالياً على أرض فلسطين المباركة, حيث شاهدنا في الكثير من الأحداث والعمليات كيف يفر عديد الجنود المدججين بالسلاح الناري أمام فتى في الثامنة عشر من عمره يحمل سكيناً ويجري خلفهم ليطعن أحدهم . 

 

إن أي محاولة للتقدم والنهوض الحضاري لا يمكن أن يكتب لها النجاح ما لم يكن عمادها الإنسان, والخطوة الأولى فيها هي النهوض بالإنسان وبنائه البناء الذي يحقق ذلك النهوض، وهناك عديد الأمثلة على ذلك وفي مقدمتها النهضة اليابانية والصينية والألمانية والماليزية، فاليابان وألمانيا ورغم أنهما خرجتا من الحرب العالمية الثانية مهزومتين وشبه مدمرتين إلا أنهما تمكنتا من تجاوز ذلك وإعادة بناء الدولة والنظام والقوة خاصة الاقتصادية والعسكرية، وذلك بالتركيز على بناء الإنسان وتقدمه بتوفير كل الأسباب المطلوبة، وفي مقدمتها الانطلاق من التراث والذات الثقافية والفكرية واستيعاب التقدم التكنولوجي الحاصل في العالم، فقد رفعت اليابان مثلا شعار " التقنية الغربية والروح اليابانية " ، حيث يحافظ هذا الشعار على الثقافة والتراث الياباني ( الشرط الذاتي ) بجانب استيعاب التقنية الصناعية الغربية ( الشرط الموضوعي )، فكان النجاح والتقدم ووصول اليابان إلى ما وصلت إليه، وأي تجاوز أو هيمنة من أحد هذين الشرطين على الآخر لن يقود إلا إلى مزيد من الانهيار والتخلف والتراجع، كما هو حال مفردات الأمة الإسلامية من دول وأنظمة وحكومات وحتى حركات وتنظيمات التي مارست هيمنة أحد الشرطين على الآخر بل وألغت أحدهما لصالح الآخر. 

 

وفي ماليزيا الدولة الإسلامية الصغيرة نسبياً والتي تعتبر بحق إحدى أهم المحاولات الناجحة للتنمية والنهضة، فقد أدرك الماليزيون إن التنمية والنهضة لا تتحقق قسراً أو في مناخ استبدادي ، وإنما تتحقق في إطار الحرية والمجتمع المفتوح، الحرية التي تعني تحرير الإنسان من ربقة الجهل, وفي نفس الوقت تعزيز فرص المشاركة الإيجابية الواعية والمسؤولة، الحرية بكافة أشكالها الاقتصادية والسياسية والدينية والانفتاح على الآخر، لذا فقد كان الاهتمام والمراهنة على العنصر البشري الذي اعتبرته غاية ومنطلق عملية التنمية والتحديث، فعملت على تحديث التعليم وتقوية المنظومة التعليمية، ووضع الخطط والبرامج الهادفة لتجديد مخرجات العملية التعليمية وتأهيلها لتخريج كادر بشري مؤهل لتحمل مشعل النهضة ، يقول الدكتور مهاتير محمد أحد أقطاب النهضة الماليزية ورئيس سابق للوزراء في ماليزيا في رسالة بعنوان معركتي الأخيرة " إن قيادة المجتمعات لا يجب أن تخضع للوعاظ بل لعلماء النهضة الاقتصادية والتكنولوجية" ، وفي موضع آخر من الرسالة يقول " لن نتحرر ولن نبني وننتج ونبدع إلا إذا حكمنا عقولنا ، وليكن كل واحد منا إنسان منتج ومبدع ورجل دين متنور " ، ويضيف " لابد من ضرورة توجيه الجهود والطاقات إلى الملفات الحقيقية وهي الفقر والبطالة والجوع والجهل، لأن الانشغال بالأيدولوجيا ومحاولة الهيمنة على المجتمع وفرض أجندات ووصايا ثقافية وفكرية عليه لن يقود إلا إلى مزيد من الاحتقان والتنازع" ., وفي الجانب الاقتصادي اعتمدت التجربة الماليزية سياسية الاعتماد على الذات ورفضت التعامل مع مؤسسات الإقراض الدولية لأنها ترى في هذه المؤسسات وسائل القوى

إن البناء الحقيقي للإنسان المحقق للأهداف المرجوة والمنشودة يتحقق من خلال: -

 أولاً : البناء الفكري والثقافي والعلمي ، الفكري والثقافي الذي يحقق الارتباط بالماضي وبالتراث الفكري والثقافي لمجتمعه وأمته ، بما يزيل أي انفصام نكد مع الحاضر والمستقبل، والعلمي بما يحقق امتلاك آخر ما أبدعه العقل البشري في مجال العلوم والتكنولوجيا لا مجال القيم والأخلاق لأن هذا المرتبط مرتبط بثقافة كل مجتمع على اختلاف تعدد هذه المجتمعات البشرية، وهذا جوهر الشعار الذي طرحه الكاتب طارق ليساوي في مقال له ٢٧/٨/٢٠٢٣ ويقول فيه " التقنية الكونية والروح الإسلامية" فهذا الشعار هو ما يجب أن يكون شعارنا في المجتمعات الإسلامية في طريقنا وتوجهنا نحو التقدم والنهضة . 

 

ثانياً: الشعور بالأمان والاستقرار، الأمان والاستقرار الحياتي والمعيشي (ضد الفقر والعوز) ، الأمان الذي يحرره من الخوف على موقعه ومكانته ودخله بسبب مواقفه وآرائه النقدية أو المخالفة لمواقف أصحاب النفوذ والقرار، الأمان والاستقرار الناشئ عن تحقق العدل والمساواة والشفافية في المعاملة من قبل المسؤولين مع الأفراد والعناصر دون محاباة لأحد، أو ظلم أحد لصالح آخر.

 

ثالثاً: بناء إداري سليم يعتمد وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، ويحقق العدل والمساواة بين الأفراد في المغرم والمغنم، ويعمل على توفير الأسباب المادية للنجاح (حسب الإمكانيات) والتي تعين الفرد على التفكير والإبداع، ويضمن لكل فرد حقه سواء كان حقاً مادياً أو معنوياً، وغني عن القول إن مثل هذا البناء الإداري لن يكون إلا إذا خرج من رحم دستور وقانون مكتوب يتحاكم أمامه الجميع بعدل ومساواة وشفافية في التطبيق. 

 

 وعليه فإن أي نظام (دولة حركة _تنظيم جمعية إلخ) لا تعطي الإنسان الاهتمام المناسب لبنائه كما يجب، وتوجه جل اهتمامها للبناء المادي الظاهر للعيان من عمارات وشوارع وجسور ومسميات إدارية كثيرة وعديدة ..... إلخ، سينتهي به الأمر إلى الفشل والانهيار وقبل ذلك الفشل في تحقيق الأهداف المرجوة.

التعليقات : 0

إضافة تعليق