غزة/ الاستقلال
في شهادة تهز الضمير العالمي، أعلن المؤرخ الإسرائيلي الأميركي عمير بارتوف، أستاذ دراسات الهولوكوست والإبادة الجماعية بجامعة براون الأميركية، أن دولة الاحتلال الإسرائيلي ترتكب إبادة جماعية بحق الشعب الفلسطيني في غزة، مؤكّدًا أن ما يجري ليس مجرد حرب بل عملية تدمير ممنهج بهدف القضاء على الوجود الفلسطيني.
وفي مقال مطوّل نشرته صحيفة نيويورك تايمز، أشار بارتوف إلى أن ما شاهده من أفعال الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة يتجاوز كل ما تخيله عن فظائع الحروب، قائلاً: “كان مؤلماً للغاية أن أصل إلى هذه القناعة، خصوصاً أنني نشأت في بيت صهيوني وخدمت جندياً وضابطاً في الجيش الإسرائيلي.”
من نفي الإبادة إلى الاعتراف: نقطة التحول
اعترف بارتوف أنه في بدايات الحرب بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، لم يكن يرى أن عمليات الجيش الإسرائيلي ترقى إلى الإبادة الجماعية. لكن ما حدث في مايو/أيار 2024، حين أجبر الجيش نحو مليون فلسطيني على النزوح إلى منطقة المواصي الساحلية التي وصفها بأنها “مكان بلا مأوى يُعتد به”، كان نقطة تحول قلبت قناعته بالكامل.
وقال بارتوف: “لم يعد بإمكاني إنكار أن نمط العمليات العسكرية هناك يتسق مع تصريحات قادة إسرائيل التي تنطوي على نية الإبادة الجماعية.”
ويرى بارتوف أن دولة الاحتلال لا تكتفي بالقصف أو العمليات العسكرية بل تنفذ مشروعاً يستهدف جعل غزة غير صالحة للسكن، لإرغام أهلها على الرحيل نهائياً. وأضاف: “هذا هو الهدف المنشود، وهذه هي النية المعلنة التي لا لبس فيها.”
ويؤكد أنه لا مجال لإنكار ما تفعله دولة الاحتلال، خصوصاً بعد أن تضافرت شهادات خبراء القانون الدولي ومنظمات حقوق الإنسان، مثل فرانشيسكا ألبانيزي، المقررة الأممية الخاصة للأراضي الفلسطينية، ومنظمة العفو الدولية، التي توصلت إلى الاستنتاج نفسه بأن ما يحدث في غزة ليس أقل من جريمة إبادة جماعية.
تهديد للنظام الأخلاقي والقانون الدولي
يحذّر بارتوف من أن إنكار تصنيف أفعال دولة الاحتلال كإبادة جماعية لا يهدد الفلسطينيين وحدهم، بل يزلزل أركان النظام الأخلاقي والقانوني العالمي الذي تأسس بعد أهوال الهولوكوست.
وقال بارتوف بلهجة صارخة: “إن الاستمرار في الإنكار يلحق ضرراً بنظام القانون الدولي الذي صيغ بعد الحرب العالمية الثانية للحيلولة دون تكرار مثل هذه الفظائع. الإنكار يهدد الأسس الأخلاقية التي تعوّل عليها البشرية جمعاء.”
وذكّر بأن اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1948 عرّفت الإبادة الجماعية بأنها أفعال ترتكب بنية تدمير جماعة قومية أو إثنية أو دينية كلياً أو جزئياً، وهي النية التي يعتبرها بارتوف ثابتة في التصريحات الإسرائيلية والأفعال على الأرض.
التطهير العرقي يتحوّل إلى إبادة
رغم محاولات بعض المراقبين الاكتفاء بوصف ما يجري في غزة بأنه “تطهير عرقي”، يرى بارتوف أن الخط الفاصل بين التطهير والإبادة سرعان ما ينهار عندما يجري تهجير الناس من منطقة إلى أخرى، دون مأوى، ويتعرضون للقصف والتجويع بلا هوادة.
وقال: “عندما تُشرد مجموعة عرقية من منطقة إلى أخرى وتُقصف وتجوع باستمرار، يتحوّل التطهير العرقي إلى إبادة جماعية. وهذا ما يحدث في غزة اليوم.”
ووصف بارتوف الوضع الإنساني في غزة بأنه كارثي، قائلاً إن القطاع يضم حالياً أكبر عدد من الأطفال المبتوري الأطراف في العالم، محذّراً من أن جيلاً كاملاً سيعيش حياته مثقلاً بالصدمات النفسية والجسدية الناتجة عن الهجمات الإسرائيلية المستمرة.
وأشار إلى أن آلاف المرضى في غزة لا يجدون علاجاً لأمراض مزمنة بسبب انهيار المنظومة الصحية، بينما يُقتل المدنيون لمجرد محاولتهم الحصول على الطعام والماء في ظل تفاقم المجاعة.
وأضاف: “وصف ما يجري بأنه حرب تسمية خاطئة. الجيش الإسرائيلي لم يكن يقاتل طوال العام المنصرم، بل كان ينفّذ عمليات هدم وتطهير عرقي.”
إسرائيل تفقد رصيدها الأخلاقي
في أخطر ما جاء في مقاله، اعتبر بارتوف أن دولة الاحتلال التي تأسست كرد فعل على محرقة اليهود في أوروبا، بدأت تفقد رصيدها الأخلاقي الذي استندت إليه منذ نشأتها، موضحاً أن تل أبيب تستخدم رواية “لن يتكرر أبداً” التي ارتبطت بالهولوكوست كغطاء لممارسات وحشية ضد الفلسطينيين.
وسخر بارتوف من الدعاية الإسرائيلية التي تصف الجيش الإسرائيلي بأنه “الأكثر أخلاقية في العالم”، قائلاً: “إن مشاهد الرعب اليومية في غزة، التي يحجبها الإعلام الإسرائيلي عن الجمهور، تفضح كذب هذه الدعاية. (إسرائيل) تدّعي أنها تدافع عن نفسها ضد عدو نازي، بينما هي التي تمارس أعمالاً تقترب من الإبادة الجماعية.”
وشدد بارتوف على أن من يرتكب أو يُتهم بالإبادة الجماعية يفقد مكانه بين الأمم، ويمكن أن يواجه قادته المحاكم الدولية والعقوبات الأممية، داعياً المجتمع الدولي إلى التحرّك قبل فوات الأوان.
وختم مقاله بتحذير موجّه إلى قادة دولة الاحتلال قائلاً: “عليكم أن تقرروا ما إذا كان مستقبل (إسرائيل) سيقوم على تدمير المبادئ الأخلاقية التي تأسست عليها. لأن ما يحدث اليوم ليس إلا كارثة أخلاقية وتاريخية جديدة.”
وأكدت نيويورك تايمز أنه بهذه الشهادة النادرة، يكشف بارتوف قبح ما يحاول الإعلام الغربي تلميعه: (إسرائيل) لا تحارب دفاعاً عن النفس، بل تنفّذ مشروعاً لإبادة الفلسطينيين، فيما يتواطأ جزء من العالم بالصمت أو التبرير.
التعليقات : 0