متابعة/ الاستقلال
استبقت بريتوريا التوقّعات بتراجع الدعم الأفريقي للقضيّة الفلسطينية، بعد توقيع اتفاق الهدنة بين إسرائيل وحركة «حماس» في شرم الشيخ (13 الجاري)، بإعلان ترحيبها بمخرجات القمّة، وتأكيدها أن التطوّرات الجارية «لن تؤثّر على الدعوى المرفوعة من قِبلها ضدّ إسرائيل، في محكمة العدل الدولية».
غير أن انفراد الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بمسار «الحلّ»، إلى جانب الدعم الدولي الذي حظيت به خطّته في شأن غزة، ألقيا بظلالهما على القارة الأفريقية، ورَفَعَا سقف توقّعات بعض دولها إزاء إمكان التوصّل إلى حلول تفاوضية مع الإدارة الأميركية، ولا سيما في ملفَّي التعرفات الجمركية، وتمديد العمل بـ»قانون الفرصة والنمو الأفريقي» (أغوا).
على أن تلك المعطيات لا تغيّر كثيراً من احتمالات استمرار الدعم الأفريقي للقضية الفلسطينية على المدى المنظور، خصوصاً في ظلّ الضرر الكبير الذي لحق بصورة الكيان - والذي تُبذل حالياً جهود إسرائيلية لإصلاحه -، وما واجهته إسرائيل من رفض شعبي صريح حتى في دولة مِن مِثل غانا (صاحبة العلاقات القوية مع إسرئيل)، وذلك خلال انعقاد إحدى الفاعليات السينمائية لعرض خمسة أفلام إسرائيلية، في النصف الثاني من الشهر الماضي، وبرعاية سفارة تل أبيب هناك.
بريتوريا تواصل الدعم
على رغم الغياب الأفريقي شبه التامّ عن حضور مراسم توقيع خطّة ترامب، كانت جنوب أفريقيا أبرز الغائبين، وذلك بالنظر إلى انخراطها القويّ في دعم القضية الفلسطينية، بعد أحداث السابع من أكتوبر، وقبلها؛ علماً أن غيابها يبدو بمثابة ترضية لترامب، ومن خلفه رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، على خلفية مواقفهما العدائية الصريحة تجاه جنوب أفريقيا، ورئيسها سيريل رامافوسا. وعلى رغم التهدئة، أكّدت بريتوريا أنها ستمضي قدماً في إجراءات القضيّة المرفوعة ضدّ إسرائيل وقادتها في شأن الإبادة في قطاع غزة، باعتبارها جرائم لا تسقط بالتقادم أو بالاعتذار.
وفي ملاحظاته، قال رامافوسا إن «القضية ستمضي قدماً، حتى تردّ إسرائيل على مرافعاتنا التي قدّمناها في المحكمة، بحلول كانون الثاني 2026»، مضيفاً: «فيما ترحّب بريتوريا بالمرحلة الأولى من السلام، بما في ذلك وقف إطلاق النار وإطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين والسجناء الفلسطينيين، فإنه يجب في نهاية المطاف تحقيق العدالة الحقيقية للشعب الفلسطيني».
وعلى المنوال نفسه، جاء بيان وزارة العلاقات والتعاون الدولي، الذي أكّد «وجوب محاسبة المتّهمين بارتكاب جرائم حرب كأمر جوهري بغضّ النظر عن التطوّرات السياسية»، لافتاً إلى أن القضيّة المرفوعة ضدّ إسرائيل تسعى إلى «منع تجدُّد الانتهاكات وليس مجرّد وقفها مؤقتاً». ووفقاً للبيان، فإنه «لا يمكن الهدنة محو جرائم الحرب المُرتكبة خلال الصراع».
ويبدو ممّا تقدّم، أن موقف بريتوريا من القضيّة الفلسطينية، مبدئي، وقائم على رؤية شعبية تعبّر عنها حكومة «حزب المؤتمر الوطني»، وذلك على رغم الضغوط الداخلية من شريكها، «التحالف الديمقراطي»، وبعض المجموعات، لتبنّي مقاربة أكثر تحيّزاً لإسرائيل، فضلاً عن الضغوط الأميركية والأوروبية على بريتوريا، لثنيها عن مواقفها «الراديكالية» ضدّ تل أبيب وقادتها.
أفريقيا تتطلّع إلى تغيير سياسات ترامب
انتهز الرئيس الأوغندي، يوري موسيفني، فعاليات اجتماع وزراء خارجية «دول عدم الانحياز» الـ19، والتي عُقدت في كمبالا (انتهت أول من أمس) بحضور مندوب فلسطين الدائم لدى الأمم المتحدة رياض منصور، للتعبير الواضح عن التزام الحركة، برئاسة بلاده حالياً، «بتحقيق حلٍّ عادل وسلمي للقضيّة الفلسطينية»، مشيراً إلى أن «حلّ الدولتَين يظلّ الطريق الشرعي الوحيد نحو إنهاء الصراع»، فيما أبرز جهود الحركة الدبلوماسية، خصوصاً لجهة دعوتها المجتمع الدولي إلى الاعتراف بدولة فلسطين، ودعم انضمامها إلى الأمم المتحدة كدولة كاملة العضوية.
ويظهر الإعلان المتقدّم، تعمُّق المواقف المبدئية الأفريقية تجاه القضيّة الفلسطينية، وإرادة البناء على ما تحقَّق بالفعل في السنوات الأخيرة من كشف لحقيقة الممارسات الإسرائيلية المنافية لمبادئ القانونَين الدولي والدولي الإنساني.
لكنّ انفراد ترامب بإخراج اتفاق غزة، على رغم دعمه المشهود لإسرائيل عسكريّاً وسياسيّاً، عزّز آمال عدد من الدول الأفريقية في إمكان إعادة نظر واشنطن في سياساتها المتشدّدة تجاه هذه الدول، خاصّة في مسألتَي الرسوم الجمركية، ومدّ العمل بـ»قانون الفرصة والنمو الأفريقي».
ووفقاً لتقارير نُشرت منتصف الشهر الجاري، فإن وقف الحرب في غزة من شأنه أن يعزّز بشكل مباشر علاقات إسرائيل العسكرية والأمنية مع عدد من الدول الأفريقية، بدعم أميركي مباشر. وأشارت التقارير إلى ريادة المغرب وكينيا هذا التوجّه، علماً أن الرباط تشتري أسلحة إسرائيلية منذ عام 2020، آخرها ما اشترته بداية العام الجاري من وحدات مدفعية من طراز «36 ATOMS 2000»، تصنّعها شركة «البيت سيسيتمز»، فضلاً عن تعميق نيروبي علاقاتها العسكرية مع تل أبيب، والتي تشمل الدعم والتدريب والمساعدات العسكرية المباشرة.
ولفت أحد هذه التقارير (PRISM) إلى دور الولايات المتحدة البارز في تعزيز علاقات التعاون العسكري بين إسرائيل ودول القارة الأفريقية، وفتح أسواق الأخيرة أمام شركات السلاح الإسرائيلية، «الأمر الذي يزيد المخاوف من الأنشطة العسكرية الأميركية في أفريقيا، ويربطها مباشرة بالإبادة الإسرائيلية في غزة»، كمجال للتدريب واختبار عدد من الأسلحة قبل تصديرها إلى الأسواق الأفريقية.
على أيّ حال، فإن اتفاق الهدنة الأخير، على رغم زخمه اللحظي، مثّل اختباراً للمواقف الأفريقية من القضيّة الفلسطينية، نجحت فيه دول القارة في طرح رؤية واقعية بقيادة بريتوريا وكمبالا، وتوجّس من «اليوم التالي» للهدنة، خلافاً للموقف العربي المحتفي بالهدنة كتسوية تاريخية ربّما ليس لها ما بعدها.
التعليقات : 0