العدالة الاجتماعية ضمانة الاستمرارية .. بقلم / تيسير الغوطي

العدالة الاجتماعية ضمانة الاستمرارية .. بقلم / تيسير الغوطي
أقلام وآراء

أقلام/الاستقلال:

أثناء دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم بعض قبائل العرب إلي الإسلام سأله احدهم : إلام تدعونا أخا قريش ؟فقال النبي صلى الله عليه وسلم " إن الله يأمر بالعدل والإحسان", فقال الرجل :دعوت والله مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال , ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك ,هذه الإجابة الفطرية من ذلك الأعرابي تدل على أن العدل والإحسان من أهم مكارم الأخلاق والأعمال التي تضمن سير الحياة البشرية في الوجهة التي أرادها الله عز وجل لمخلوقه الإنسان , وإذا كانت الحكمة التي تقول أن العدل أساس الملك, تعتبر أن العدل احد أهم الضمانات لاستمرار الحكم والملك , فان الإسلام اتخذ موقفا أكثر تقدما وأكثر إنسانية’ يقول الله تعالى " إن الله يأمر بالعدل والإحسان ", الإحسان الذي فيه زيادة عن العدل لصالح صاحب الحق , إذ أن العدل يضمن لكل ذي حق حقه ويمنع أن يقع عليه الظلم من الآخرين.

 

   والعدل الذي يدعو إليه الإسلام ليس العدل النظري المسطور في القوانين والقرارات فقط , فهذا يبقى شعارا فقط ما لم تتم ترجمته على أرض الواقع , لذا فالعدل المنشود هو الذي يتجسد في ممارسة فعلية لأحكام عملية تهدف إلي إصلاح الأمة أفرادا ومؤسسات, هو العدل الذي يضمن لكل ذي حق حقه, هو العدل الذي يسمح بالنقد والمحاسبة لكل فرد على تصرفاته سواء كانت المحاسبة من النفس أو من الآخرين , كما حدث  في سيرة الخلفاء الراشدين , فهذا عمر بن الخطاب يقول " حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ",ويقبل ويسمح لمواطن من المسلمين أن يحاسبه ( وهو الخليفة ) على طول ثوبه ظنا من هذا الموطن أن عمر قد اخذ حصة زيادة من الغنائم , وهذا الخليفة عمر بن عبد العزيز يحاسب نفسه وأهله حتى لا يأخذ شيئا زيادة من بيت مال المسلمين مهما كان بسيطا حتى لو كان زيت السراج , فكان يستعمل زيتا من بيت المال العام إذا كان يريد استخدام السراج لأعمال تخص الخلافة وشئون المسلمين , ويستعمل زيتا من ماله الخاص  إذا كان يريد استخدام السراج لأعمال تخصه شخصيا.

 

هذا العدل الذي طبقه الخلفاء الراشدين هو الذي منح المنعة والحماية للسلطة وزعيمها ( الخليفة), ولم يكن الخليفة بحاجة إلى عديد مسميات الأجهزة الأمنية لحمايته, وعبارة الرجل الذي جاء يبحث عن الخليفة عمر بن الخطاب لموضوع لديه توحي بالشيء الكثير, فهذا الرجل عندما وصل إلى عمر بن الخطاب ووجده نائما تحت ظل الشجرة ولا حراسه وحراس حوله قال " لقد حكمت فعدلت فأمنت فنمت يا عمر". ومن أروع الترجمات العملية لذلك في التاريخ الإسلامي بعد فترة النبوة وما جاء على لسان الخليفة الراشد أبو بكر الصديق حين قال " الضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ له حقه، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى أخذ منه الحق الذي ليس له ".

 

ومن ضمن مكونات العدل, العدالة الاجتماعية والتي تعرف بأنها إحدى النظم الاجتماعية التي من خلالها يتم تحقق المساواة بين جميع أفراد المجتمع من حيث المساواة في فرص العمل وتوزيع الثروات والامتيازات والحقوق السياسية وفرص التعليم والرعاية الصحية بغض النضر عن الجنس أو العرق أو الديانة أو المستوى الاقتصادي , وبالتالي يتمتع جميع أفراد المجتمع بعيش حياة كريمة بعيدا عن التحيز, وعليه فان العدالة الاجتماعية وكما يقول  د . علي الصلابي في كتابه العدالة الاجتماعية من منظور إسلامي صـــ172 ــــ  تصبح "مقصد شرعي وقيمة أخلاقية مهمة في نهضة المجتمعات وبناء الدول الراشدة ", ولن تتحقق عدالة اجتماعية كاملة, ولن يضمن لها التنفيذ والبقاء ما لم تستند إلى شعور نفسي باطن باستحقاق الفرد لها, وبحاجة الجماعة إليها , وبعقيدة في أنها تؤدي إلي طاعة الله والى واقع إنساني أسمى .

 

ولذلك فقد بدأ الإسلام – وقبل سن التشريعات – وكما يقول يسد قطب في كتابه العدالة الاجتماعية صــ54ـــ بدأ بتحرير الوجدان البشري من عبادة احد غير الله , ومن الخضوع لأحد غير الله , فما لأحد غير الله من سلطان ,وما من أحد يميته أو يحيه إلا الله, والله وحده هو الذي  يستطيع والكل سواه عبيد لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم شيئا, ويضيف " ولكن  الإسلام  لشدة حرصه على أن يحقق للناس العزة والكرامة وان يبث في نفوسهم الاعتزاز بالحق والمحافظة على العدل وان يضمن بذلك كله علاوة على التشريع عدالة اجتماعية مطلقة لا يفرط فيها إنسان, لهذا كله يعني عناية خاصة بأن يقاوم الشعور بالخوف على الحياة، وعلى الرزق، وعلى المكانة، فالحياة بيد الله، وليس لمخلوق قدرة على أن ينقص هذه الحياة ساعة، أو بعض ساعة " , وإذا استشعر الضمير البشري هذا التحرر الوجداني فسيطلب حقه في المساواة, وسيجاهد لتقرير هذا الحق ولن يقبل عنه بديلا.

 

وتقوم العدالة الاجتماعية على عدة عناصر ومقومات يجب  توفرها كي تتحقق العدالة الاجتماعية واقعا على الأرض , وأول هذه العناصر هو التحرر الوجداني للإنسان كما سبق ذكره في الأسطر السابقة , وثانيها هو المحبة ويقصد بها أن يحب كل شخص لغيره في المجتمع ما يحبه لنفسه, وقد  سبق الإسلام كل التشريعات في الحض على هذه المحبة بل اعتبر أن غياب تلك المحبة سببا لغياب الإيمان , يقول الرسول صلى الله عليه وسلم " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه كما يحب لنفسه ", ويقول أيضا " المسلم أخو المسلم  لا يظلمه.. الخ" الحديث، وقوله لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه المسلم فوق ثلاث.. "الحديث وثالث تلك العناصر تحقق الكرامة الإنسانية للإنسان بغض النظر عن عرقه وجنسه وفكره، فكل إنسان يستحق الكرامة الإنسانية في المعاملة لأنه إنسان، وهذه الكرامة هي منحة له من الخالق عز وجل لا يحق لأحد مهما كان أن ينزعها عنه أو يسلبها منه , يقول تعالى في كتابه العزيز " ولقد كرمنا بني آدم" الآية . ورابع هذه العناصر تحقيق المساواة والتضامن بين جميع أفراد المجتمع في كل ما يخص الحياة, والمساواة في فرص العمل  توزيع الثروة, الامتيازات, الحقوق السياسية, فرص التعليم, الرعاية الصحية, خدمات الضمان الاجتماعي, وخامس عناصر العدالة الاجتماعية يتمثل في احترام وتعزيز مفهوم العدالة الاجتماعية, ولقد كان للإسلام– عبر تشريعاته السبق عن كل القوانين والتشريعات القديمة والحديثة في تقرير حق المساواة والتضامن بين أفراد المجتمع , والنصوص القرآنية والنبوية في هذا المضمار أكثر من أن تحصى, ومنها قوله تعالى "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا " الآية , وقوله صلى الله عليه وسلم "الناس سواسية كأسنان المشط , لا فضل لأعرابي على أعجمي ولا احمر على اصفر إلا بالتقوى " أو كما قال, وكثيرة هي الآيات القرآنية التي ابتدأت الخطاب ب يا أيها الناس , كما أن النصوص القرآنية والنبوية لم تقف عند تقرير المساواة بين البشر, بل أفردت مساحة واسعة للنهي عن كل ما يخرق هذه المساواة وفي مقدمتها الظلم.

 

المجتمع الإسلامي قيادة وجماهير خاصة في العصر النبوي وعصر الخلافة الراشدة مثل صورة ايجابية لمبدأ العدالة الاجتماعية وتطبيق عناصرها واقعا على الأرض , فمن مقولة أبو بكر رضي الله عنه "القوي فيكم ضعيف عندي حتى اخذ الحق منه , والضعيف فيكم قوي عندي حتى أرد الحق له " , إلى جواب عمر بن الخطاب رضي الله عنه لقاتل أخيه عندما قال له اغرب عن وجهي فلا أحب أن أراك فسأل الرجل عمر وهل ينقص ذلك حقي من بيت مال المسلمين؟, فأجاب عمر رضي الله عنه  أما هذا فلا " فخرج الجل مطمئنا وقال حب أولا تحب فإنما يبكي على الحب النساء , والى حكم القاضي المسلم الذي حكم لليهودي بالحق في الدرع في الخصومة بين اليهودي وعلي بن أبي طالب وهو خليفة المسلمين يومئذ, والدرع درعه لكنه لم يستطع تقديم الدليل المجرد الذي يثبت أحقيته في الدرع, والى موقف عمر بن الخطاب الذي اجبر ابنه عمر على بيع إبله حتى لا ترعى في المرعى على حساب ابل الصدقة التي هي ملك بيت مال المسلمين , لأنه ابن الخليفة والحاكم , والقصص في ذلك كثيرة, لكن ما نود قوله والتأكيد عليه هو أن التطبيق الايجابي والأمين لعناصر العدالة الاجتماعية في تلك الحقبة التاريخية كان احد الأسباب الأساسية – بجانب أسباب أخرى – لتقدم وانتشار وتمدد الدولة الإسلامية ورضا الشعوب الأخرى للعيش في ظل الدولة الإسلامية وقوانينها وتشريعاتها , وقبل ذلك الفوز بمرضاة الله عز وجل .

 

وعندما بدأت الدولة الإسلامية بعد عهد الراشدين في التخلي التدريجي عن تطبيق العدالة الاجتماعية، وبدأت مظاهر الفساد والترف في الظهور والازدياد, مع اتساع في الفجوة بين الطبقات التي بدأت تتشكل في المجتمع المسلم تبعا لقرب هذه الطبقة أو تلك  أو بعدها عن السلطة الحاكمة , عندها بدأت عوامل الضعف تدب في الدولة الإسلامية حتى وصلت إلى ما وصلت إليه في أواخر الدولة العباسية كما العثمانية .

 

وبالنظر في واقع الدول والمجتمعات الإسلامية في العصر الحاضر, فإننا نلمس وبسهولة أمرين خطيرين الأول هو عدم التمييز بين إدارة الحزب الحاكم لمؤسسات الحزب وأفراده , وبين إدارة الدولة التي تضم عديد الأحزاب والجماعات منها المؤيد ومنها المعارض , وهذا أوقعها في خطيئة عدم الفصل بين الدولة والحزب واعتبار الدولة من ممتلكات الحزب الحاكم, والأمر الثاني هو غياب العدالة الاجتماعية عن واقع حالها , فلا محبة تسود بين أفرادها خاصة إذا كانوا منتمين لمسميات الأحزاب والتنظيمات والتكتلات التي مزقت وما زالت جسد المجتمع الواحد, نتيجة الاختلاف في التوجهات السياسية وأحيانا الفكرية فيما بينها , وأصبح الحكم الفصل في هذه المحبة ليس قوله صلى الله عليه وسلم " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ", وإنما قول ذلك الإعرابي في الجاهلية عند المفاضلة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين مسيلمة الكذاب  (من قبيلة مضر) " كذاب مضر خير من صادق ربيعة ", فما نراه واقعا اليوم  في الدول والحكومات – رغم ادعاؤها الإسلامية – هو أن الثقة الذي يعتمد قوله ورأيه هو ابن الجماعة أو الحركة أو التنظيم أو أيا من هذه المسميات التي تعج بها المجتمعات الإسلامية , وعلى مستوى المساواة في فرص العمل والوظائف فان هذه وبدلا من أن تكون لكافة أبناء المجتمع على اختلاف توجهاتهم الحزبية فإنها أضحت حكرا على أبناء الحزب الحاكم أو المقربين منه والدائرين في فلكه, والأمر ذاته فيما يتعلق بالمساواة في التوزيع الثروات للفقراء والحقوق السياسية وفرص التعليم  والرعاية الصحية وحتى خدمات الضمان الاجتماعي التي تقدم للفقراء والمحتاجين, واضحت كل عناصر العدالة الاجتماعية حكرا على الحزب الحاكم والدائرين في فلكه, بتجاوز ليس فقط لقيم وأخلاق العدالة التي تضمن استمرار الحكم وإنما لقيم وأخلاق وأحكام الإسلام العظيم الذي يدعون الانتساب إليه والالتزام بشرائعه وقوانينه.

 

إن غياب العدالة الاجتماعية وغياب التطبيق الأمين والشفاف لعناصرها في المجتمعات الإسلامية المعاصرة سيؤدي بهذه المجتمعات والسلطات الحاكمة فيها إلى ما آلت إليه المجتمعات الإسلامية السابقة (العباسية– العثمانية- مثالا ونموذجا) من ضعف وانهيار وصولا إلى الزوال والاستبدال تناسقا مع السنن الإلهية ذات الصلة.

التعليقات : 0

إضافة تعليق