غزة/ سماح المبحوح:
مع ساعات الفجر الأولى من يوم الجمعة الماضي اضطر المواطن ابو سمير للنجاة بحياته وأفراد عائلته وأحفاده بالنزوح قسرا من جباليا شمال قطاع غزة إلى وسط مدينة غزة تحت وابل من الصواريخ وحمم القذائف التي انهالت عليهم دون سابق إنذار ليستقر بهم الحال في خيمة لا تقيم حرارة الصيف الحارقة.
لم يحمل المسن وعائلته كثيرا من امتاعتهم سوى ما يرتدونه وبعض الطعام والأغطية والقماش المخصص لنصب خيامهم، فرحلة نزوحهم التي استغرقت 5ساعات من منطقة عزبة عبد ربه شرق مخيم جباليا وصولا لمدينة غزة، كانت مليئة بالمصاعب، مع انعدام شبه كامل لوسائل المواصلات و ارتفاع أسعار المتوفر منها بشكل جنوني.
ويعود شبح النزوح القسري ليُخيّم على أهالي شمال وجنوبي قطاع غزة، سواءً من خلال أوامر الإخلاء المستمرة التي تصدرها قوات الاحتلال الإسرائيلي، أو من خلال القصف الهمجي الذي دمر أحياءً بأكملها خلال الـ24 ساعة الماضية، وراح ضحيتها أكثر من 300 شهيداً.
وكانت قوات الاحتلال الإسرائيلي قد طلبت من أهالي مدينة بيت لاهيا ومعسكر جباليا والشيخ زايد وتل الزعتر وعزبة عبد ربه شمالا بإخلاء منازلهم ومنطقة القرارة ابو العجين ومنطقة وادي السقا وشرق دير البلح جنوبا.
ومنذ استئناف حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة في 18 مارس/ آذار الماضي، نزحت الالاف العائلات ، إضافة لتنقل الآلاف من مناطقهم الأسبوع الفائت بعد تحذيرات بالإخلاء من قوات الاحتلال.
نكبة جديدة
ويعيش المسن وعائلته كما أهالي قطاع غزة إحدى أقسى وأصعب تجارب النزوح التي شهدها الشعب الفلسطيني، حيث يعود جيل جديد ليعيش تجربة النزوح واللجوء بعد 77 عامًا على النكبة الأولى.
وبدموع تملأ مقلتيه قال لـ"الاستقلال" شردنا من الموت وسرنا مسافات طويلة فوق الردم وبين الركام، تعبت وتعبت أولادي وأحفادي، كل ذلك في محاولة للنجاة بأرواحنا قبل ما صاروخ ولا قذيفة تسقط علينا".
وأضاف:" الطريق أخذت منا وقت كبير لحد ما وصلنا لمنطقة السرايا، ما في مواصلات لنركب ونرتاح ونوفر طاقة لنلاقي مكان ننصب فيه خيمتنا"، مشيرا إلى أنهم حاولوا الاستعانة بمركبة لتقلهم إلى وجهتهم، لكن طلب السائق مبلغ كبير لا يستطيعون على دفعه.
وتتفاقم الأوضاع التي يمر بها أكثر من 2.2 مليون نسمة في القطاع يوما بعد الآخر، مع تقارير الأمم المتحدة التي تشير إلى أن نحو 90% من سكان غزة أصبحوا نازحين داخليا بحلول أبريل/نيسان 2025.
إخلاء للنجاة
على عَجل لملم الثلاثيني أبو محمد المدهون حقيبتا ظهر وبعض المقتنيات الشخصية، وسارع لإخلاء خيمته رفقة زوجته وأبنائه الخمسة، بعد ليلة دامية شهدتها مناطق شمال القطاع.
غادر أبو محمد مشروع بيت لاهيا شمال غزة واتجه غربا نحو شارع الجلاء دون وجهة معروفة، ليستقر به الحال في حي تل الهوى جنوب مدينة غزة، مفترشا الأرض دون أن يمتلك خيمة أو قماش يستر به عائلته.
ويقول لـ"الاستقلال" وصوته يضج بالحزن:" لم أكن أنوي مغادرة منطقتي، حاولت الصمود حتى أخر رمق، ولكن شدة القصف واقتراب الدبابات لمستشفى العودة والإندونيسي، بثت الرعب والخوف في قلوب أطفالي، وسيطر الذعر على تفكيري من حصارنا، أو تعرضنا لحزام ناري يفتك بأجسادنا دون أن يتمكن أحد من إنقاذنا".
ويضيف:" قررت مكرها مغادرة المنطقة رفقة المئات من أبناء الحي دون أن نعرف إلى أين نذهب، سرنا مسافة تزيد عن 20 كيلو مترا على أقدامنا، محاولين تفادي الشوارع الرئيسية المكشوفة خشية من تعرضنا لرصاص الدبابات، وما إن وصلنا منطقة النصر حتى شعرت بنوع من الهدوء والنجاة".
وأشار إلى عدم إمتلاكه مقومات الحياة الطعام وحتى خيمة قد تساعده على الراحة بضعة أيام حتى يتمكن من العودة مجددا إلى شمال القطاع،
وتعج شوارع غرب محافظة غزة بعشرات آلاف الأسر التي نزحت قسرا من مناطق التوغل في شمال القطاع، دون أن تتوفر فيها أي مقومات للمبيت سواء خيام أو بركسات، حيث نفد ما تبقى من خيام في مستودعات المنظمات الدولية جراء الحصار الإسرائيلي المفروض على القطاع منذ الثاني من أذار/ مارس الماضي.
واستقرت بعض العائلات النازحة من شمال القطاع في مقابر الفالوجة والتوانسي والشيخ رضوان الواقعتان وسط وغرب محافظة غزة، حيث افترشت هذه العائلات ما استطاعت جمعه من بطانيات وسجاد بجانب مقابر الشهداء، واستظلت بجدران المقابر نظرا لارتفاع درجات الحرارة.
في حين وجدت عائلات أخرى نفسها في منطقة الشفاء وشارع الرشيد، في أقصى غرب محافظة غزة، بالرغم من تعرضها لتدمير واسع خلال عمليات جيش الاحتلال في تلك المناطق في الفترة الممتدة ما بين نوفمبر 2023- إبريل 2024.
وأول أمس السبت، أعلن المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، ان الاحتلال تسبب خلال الساعات الـ48 الأخيرة في نزوح نحو 300 ألف من شمال القطاع إلى مدينة غزة، ودمر قرابة ألف وحدة سكنية ضمن حرب الإبادة التي يرتكبها ضد المدنيين.
وكان المتحدث باسم قوات الاحتلال الإسرائيلي، أعلن فجر السبت الماضي، انطلاق المرحلة الأولى من عملية "عربات جدعون" العسكرية في قطاع غزة، عبر شنّ ضربات مكثفة وتحريك قوات للسيطرة على مناطق داخل القطاع.
وتهدف العملية العسكرية الإسرائيلية الجديدة، والتي تمرّ بمراحل إلى احتلال إسرائيلي لمناطق محورية في القطاع، وإرغام الفلسطينيين على إخلاء كل شمال ووسط قطاع غزة باتجاه رفح ضمن سياق التهجير.
وتواصل "إسرائيل" منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 حربا مدمرة على قطاع غزة، أسفرت حتى الآن عن ارتقاء أكثر من 173 ألف شهيد وجريح، إضافة إلى أكثر من 11 ألف مفقود، وسط اتهامات دولية بارتكاب إبادة جماعية ضد الفلسطينيين بدعم أميركي كامل.
التعليقات : 0