غزة/ دعاء الحطاب:
"منصات عملاقة تتسع لألاف المقاعد، زينة وأعلام وبالونات تتمايل على وقع أنغام وأناشيد النجاح، اضاءات تسطع بأجمل الألوان، ممراتٍ مفروشة بالسجاد الأحمر، محاطة بالمصوّرين والكاميرات لتلتقط صور مرور الخريجين بأثوابهم السوداء والقبعات الملونة كما الملوك، وفوق رؤوسهم تُنثر الورود وفقاعات الثلج الصناعية ترحيباً بهم"، هكذا كان يبدو المشهد في حفلات تخريج الطلبة الجامعيين بقطاع غزة.
لم يكن المشهد كالمعتاد كل عام، فقد غيبت الحرب الإسرائيلية مشاهد الفرح والاحتفال الذي انتظره الطلبة لسنوات طويلة، وبقيت شهادات النجاح حبيسة الأدراج، والقبعات التي كان من المفترض أن تُلقى عالياً وضعت على الرفوف، لتتحول لحظة التخرج من مناسبة للفرح إلى ذكرى مؤجلة في زمن الحرب.
وكان من المفترض أن يؤدي الألاف من طلبة وطالبات التعليم العالي في غزة امتحاناتهم الشهر الماضي بشكل واجهي، وكان الكثيرون يتطلعون إلى استكمال تقييماتهم النهائية والاحتفال بتخرجهم الذي حصلوا عليه بشق الأنفس.
ولكن، وبسبب حرب الإبادة الجماعية التي شنتها "إسرائيل" على القطاع، لم يرتدِ أحد من الخرجين قبعاتهم وعباءاتهم للعام الثاني على التوالي، وسُلبت طموحاتهم وأحلامهم- من أجل مستقبل يتأرجح الآن على حافة المجهول.
وألحقت الحرب الإسرائيلية التي بدأت بالسابع من أكتوبر 2023م، دمارًا واسعاً بالبنية التحتية، وتسبّب في تهجير آلاف الطلبة، وإغلاق وتدمير الجامعات، وتعطيل العملية التعليمية، كما أحرقت المكتبات عن بكرة أبيها، لتصبح تطلعات الخريجين الفلسطينيين في حالة يرثى لها.
" اغتالت أحلامنا كما أرواحنا"
"الحرب إغتالت أحلامنا ومستقبلنا، كما إغتالت أرواحنا، كان نفسي أرتدي روب التخرج وأن يشاركني الأهل والأصدقاء هذه الفرحة، لكنها لم تتم، ويبدو أننا لن نتخرج أبداً ولن نحصل على الشهادة التي ننتظرها منذ سنوات طويلة"، بتلك الكلمات أعربت الطالبة الجامعية فداء الأخرس عن خيبة أملها وحزنها الشديد من تأجيل حُلمها بالتفوق وتتويجها على منصة التخرج إلى أجل غير معلوم، بعدما فرض الاحتلال واقعًا من القصف والنزوح وفقدان الأحبة.
وتُقيم "فداء" مع أسرتها داخل قاعة دراسية خالية من المقاعد، نوافذها مُغطاه بقطع قماش بالية، وجدرانها رمادية اللون مليئة بالثقوب، داخل جامعة الأقصى في مدينة خانيونس جنوب القطاع، منذ نزوحها الأخير عن منزلها شرق رفح قبل نحو ست أشهر.
وتتابع بغصة تعترض صوتها:" في مثل هذه القاعة كان يفترض أن نكمل مسيرتنا التعليمية، لكننا تقيم فيها نازحين بعدما شردتنا الحرب".
وكانت فداء مُصممه على اغتنام كل الفرص في سنتها الأخيرة من الدراسة، للحصول على أعلى الدرجات والتخرج بدرجة الامتياز، لتشق طريقها بالحياة العملية. وفق قولها.
بابتسامة حزينة، أضافت لـ"الاستقلال":" كنت أحضر قبل موعد المحاضرة بوقت طويل للاستمتاع بكل دقيقة من حياتي الجامعية قبل التخرج"، مستدركة:" كنت وصديقاتي نتحدث دائما عن قرب تخرجنا ومتحمسين جداً للحظة التي نُتوج بها على منصة التخرج، لكننا لم نتخيل أن تنتهي أحلامنا قبل أن تبدأ".
وحلمت "فداء" ذات يوم بأن تصبح معلمة، وأن تتابع دراستها بالخارج، وأن تحاضر بنهاية المطاف في جامعات غزة، لكن حُلهما الأكبر الآن ببساطة هو "إنهاء شهادة البكالوريوس، والعودة إلى منزلها في رفح".
خيبة أمل
ولا يختلف الحال كثيراً لدى الشاب فراس الوادية الذي يدرس علم الحاسوب في جامعة الأقصى بغزة ووصل العام الماضي إلى المستوي الرابع والأخير، لكن كل شيء توقف في لحظة، وفق قوله.
وأضاف الوادية لـ "الاستقلال":" كان من المقرر أن أتخرج العام الماضي وأتهيأ إلى سوق العمل، لكني حُرمت من ذلك بسبب الحرب على القطاع".
ويعبر الشاب العشريني عن انخفاض أمله بالتخرج في ظل استمرار الحرب وقصف الجامعات وتدمير معالم الحياة في غزة، مضيفاً" أن ارتداء روب التخرج والوقوف على المنصة والتكريم من قبل الهيئة التدريسية، باتت غصة بالقلب وجرحاً ينزف بصمت".
وسعى الوادية للانضمام إلى جامعة النجاح في الضفة الغربية التي فتحت باب التعليم الإلكتروني (عن بعد) أمام طلبة غزة، لكنه لم يتمكن من ذلك، نتيجة انقطاع الإنترنت وظروف النزوح من المنزل، بحسب قوله.
ويشير إلى أن "فكرة السفر والخروج من غزة لإكمال مشواره التعليمي مستحيلة بالنسبة له لعدة أسباب، منها قلة المال وأيضاً عدم قبول الجامعات (خارج غزة) بالتعليم الذي تلقاه في غزة.
ويلفت إلى أنه اضطر إلى افتتاح "بسطة" صغيرة خلال الحرب كي يستطيع إعالة نفسه في ظل الغموض الذي يغلف مستقبله، موضحاً أنه يبيع أفلاماً وألعاباً وبرامج للناس التي تبحث عن أي شيء للتسلية في ظل انقطاع الإنترنت والكهرباء.
ويأمل الوادية أن تنتهي الحرب في أسرع وقت وتبدأ عجلة الحياة بالدوران من جديد وتعود الجامعات إلى العمل، متمنياً عدم ضياع 4 سنوات من عمره هباءً منثوراً.
التعليقات : 0