غزة / معتز شاهين:
في وقتٍ تتصاعد فيه المطالب الدولية بمحاسبة قادة الاحتلال الإسرائيلي على جرائم الحرب المرتكبة في قطاع غزة، اختارت الإدارة الأميركية طريقاً معاكساً، بفرض عقوبات على ثلاث من أبرز المنظمات الحقوقية الفلسطينية، ما أثار موجة انتقادات وُصفت بأنها تعرّي ازدواجية المعايير الأميركية.
وتُعد هذه العقوبات تحولاً خطيراً في الدور الأميركي، إذ تنتقل من الدعم السياسي التقليدي لإسرائيل إلى شراكة مباشرة في التغطية على جرائم الإبادة، ومحاولة إسكات كل صوت يطالب بالعدالة والمساءلة الدولية، بحسب ما يرى مراقبون.
وحذّر مختصان في الشأن السياسي، في حديثين منفصلين لصحيفة "الاستقلال" أمس الأحد، من أن استهداف منظمات حقوقية مثل "مركز الميزان"، و"مؤسسة الحق"، و"المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان" يعكس توجهاً أميركياً يهدف إلى تقويض الجهود الدولية الهادفة إلى توثيق الجرائم وملاحقة مرتكبيها، ويمنح إسرائيل ضوءاً أخضر لمواصلة سياساتها القمعية والإجرامية بحق الفلسطينيين، دون أي خشية من القانون أو المساءلة.
وفرضت واشنطن عقوبات على 3 منظمات حقوقية فلسطينية طالبت المحكمة الجنائية الدولية بالتحقيق مع الاحتلال الاسرائيلي بشأن ارتكاب جرائم إبادة جماعية في غزة، حسبما أظهر الموقع الإلكتروني لوزارة الخزانة الأميركية، الخميس.
وأدرجت الولايات المتحدة المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان ومركز الميزان لحقوق الإنسان ومقرهما قطاع غزة، بالإضافة إلى مؤسسة الحق- القانون من أجل الإنسان ومقرها رام الله، في ما زعمت الوزارة إنه إدراج مرتبط بالمحكمة الجنائية الدولية.
وطلبت المنظمات الثلاث من المحكمة الجنائية الدولية في نوفمبر/ تشرين الثاني 2023 إجراء تحقيق في الغارات الجوية الإسرائيلية على المناطق المدنية المأهولة بالسكان في غزة، فضلًا عن حصار القطاع وتشريد سكانه.
وتأتي العقوبات الأميركية على المنظمات الفلسطينية بعد أيام من إصدار أكبر رابطة أكاديمية من العلماء والمتخصصين في شؤون الإبادة الجماعية في العالم قرارًا ينص على استيفاء المعايير القانونية التي تثبت ارتكاب إسرائيل إبادة جماعية في غزة.
ازدواجية المعايير
ووصف الكاتب والمحلل السياسي د. حسام فاروق توقيت هذه العقوبات بأنه "يعكس ازدواجية السياسة الأميركية"، موضحاً أن الخطوة تأتي في وقت تدّعي فيه الإدارة الأميركية السعي لوقف الحرب، في حين تدعم "إسرائيل" في التهرب من المحاسبة على جرائم إبادة ترتكب في غزة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
وأضاف فاروق لصحيفة "الاستقلال"، أمس الاحد، أن العقوبات تمثل هجوماً مباشراً على قطاع حقوق الإنسان الفلسطيني، مشيراً إلى أن الولايات المتحدة لا تكتفي بالدفاع عن "إسرائيل" سياسياً، بل تمتد إلى ملاحقة المنظمات الحقوقية والمقررين الأمميين، وحتى قضاة المحكمة الجنائية الدولية، في مسعى واضح لحماية إسرائيل من المساءلة الدولية.
وتابع: "حين تُعاقَب منظمات توثق المجازر، وتُحصّن "إسرائيل" من المحاسبة، فذلك يعني عملياً منح الاحتلال رخصة للقتل والإبادة، ويقوّض ثقة الفلسطينيين وكل الشعوب المظلومة بمفهوم العدالة الدولية".
واعتبر فاروق أن إدراج منظمات مثل "المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان"، و"مركز الميزان"، و"مؤسسة الحق" ضمن قوائم العقوبات هو ضغط سياسي وأخلاقي موجه لتعطيل أي محاولة لتوثيق الجرائم أو ملاحقة مرتكبيها أمام القضاء الدولي.
وعن أثر هذه العقوبات على الصراع القائم، شدد فاروق على أن "ملامح الصراع الفلسطيني الإسرائيلي واضحة وثابتة"، مشيراً إلى أن الولايات المتحدة تستخدم العقوبات كأداة لإبقاء "إسرائيل" فوق القانون، ومنع أي تقدم نحو حل الدولتين أو الاعتراف بالحقوق الفلسطينية.
ونبه أن الدعم الأميركي المتواصل لإسرائيل، سياسياً وقانونياً، لا يعيد رسم ملامح الصراع، لكنه يعمّق الظلم، ويدعم سردية الاحتلال، ويقوّض أسس النظام الدولي القائم على المحاسبة والعدالة.
ضوء اخضر
ويرى الكاتب والمحلل السياسي عدنان الصباح أن العقوبات الأميركية الأخيرة على منظمات حقوقية فلسطينية لا تمثّل مجرد دعم تقليدي لإسرائيل، بل تعكس تحولاً خطيراً في الدور الأميركي، من كونه طرفًا منحازًا إلى كونه شريكًا مباشرًا في الحرب على الشعب الفلسطيني.
ويشير الصباح لـ "الاستقلال"، إلى أن توقيت هذه العقوبات، بالتزامن مع ملاحقة المحكمة الجنائية الدولية لقادة إسرائيليين بتهم ارتكاب جرائم حرب، يُبرز ما وصفه بـ"ازدواجية المعايير الأميركية"، حيث تُعاقَب المؤسسات التي توثق الانتهاكات، بينما تُحمى إسرائيل من أي مساءلة قانونية.
وبحسب الصباح، فإن الولايات المتحدة لا تمنح الضوء الأخضر لإسرائيل، بل تدير الحرب من وراء الستار، وتستخدم الاحتلال كأداة لتنفيذ مشروعها في المنطقة، كما تفعل في ساحات أخرى حول العالم، من أوكرانيا إلى تايوان، ومن سوريا إلى لبنان.
ويؤكد أن العقوبات الأميركية لا تأتي بمعزل عن المشروع الأوسع الذي تسعى واشنطن لفرضه عالميًا، والذي يقوم على إضعاف الجميع لفرض السيطرة، قائلاً: "الولايات المتحدة تقاتل الشعوب بغيرها، بأدواتها الطيعة، وتُغيب العدالة، وتعاقب من يطالب بها".
واعتبر الصباح أن ما يجري هو محاولة لإعادة تعريف الصراع، ليس فقط كصراع بين احتلال وشعب، بل كصراع بين قوى تحاول فرض الهيمنة، وأصوات تُسكت لأنها تطالب بالمحاسبة والحق والعدالة.
وفي ختام حديثه، حذّر الصباح من خطورة الصمت الدولي أمام هذه السياسات، قائلاً إن الحرب على غزة ليست حربًا محلية، بل إعلان عن نظام عالمي جديد تُشكّله واشنطن بالقوة والعقوبات، على حساب الشعوب وحقوقها.
التعليقات : 0