غزة/ دعاء الحطاب:
في الوقت الذي يستمتع فيه الصائمون في مشارق الأرض ومغاربها بلم الشمل مع عائلاتهم حول موائد الإفطار، والسعادة تملأ الأجواء، يغيب هذا المشهد عن مُعظم عائلات قطاع غزة المنكوب، خاصةً ذوي الشهداء في قطاع غزة المُدمر، فقلوبهم تعتصر ألماً وحزناً على فراق فلذة أكبادهم.
فلا يكاد يخلو منزلاً بقطاع غزة من شهيد أو مفقود أو أسير أو جريح على الأقل، فحرب الإبادة التي ارتكبتها قوات الاحتلال الإسرائيلي بين 7أكتوبر/ تشرين الأول 2023 و19 كانون الثاني/يناير 2025 خلفت نحو 160 ألف شهيد وجريح، وما يزيد على 14 ألف مفقود، مما جعل رمضان هذا العام مختلفاً بشكل جذري عن الأعوام السابقة، فقد اختفت الزينة من الشوارع، وقلّت الحركة فيها، وتلاشت مظاهر السهر والجَمْعات الرمضانية التي كانت تميز القطاع في كل ليلة بعد الإفطار.
متوشحاً بالحزن
ويشق شهر رمضان المُبارك طريقه بقلب والدة الشهيد رامي السويركي، فتستذكر "ابنها الحنون" -كما تلقبه-، بحرقة ومرارة مُضاعفة تتجدد صورها مع كُل لُقمةٍ تتناولها دون أن ترى عينها "فلذة كبدها" جالساً أمامها على مائدة الإفطار، ليبقي دُعائها الوحيد "رحمة الله عليه".
بدموعٍ تملأ عينيها، تتحدث أم رامي لـ "الاستقلال" عن تفاصيل اليوم الأول لرمضان بدون نجلها الشهيد:" صورة رامي ما غابت عن عيني أبدا، بكل لحظة بشوفه وبتذكره، على السحور شوفت صورته وسلمت عليه، وعلى الجوال رنيت عليه عشان أنبهه للسحور لكن ما رد".
وما إن سمعت "أم رامي" صوت المسحراتي يطرق باب منزلها وينادي عليهم للسحور، حتى أغلقت أُذنيها بشدة، وتذكرت صوت فلذة كبدها "رامي" الذي كان يخرج كل ليلة من رمضان مع المسحراتي يجوبان شوارع الحي ويوقظان الناس بالتسبيح والتهليل والإنشاد. وفق قولها.
بغصةٍ تعترض صوتها، تُضيف:" كان رامي قبل ما يطلع يسحر الناس، يدق عليا الباب ويعطيني فنجان القهوة، ويطلب مني الرضا".
مضت ساعات النهار مثقلة بالآلام والذكريات، فما كان من الأم المكلومة إلا الهروب منها الى قبر شهيدها "رامي"، لعلها بقربه تستطيع إخماد شوقها ووجعها على فراقه، قائلة:" ما قدرت أفطر بدونه، وأولاده ما أفطروا، نفتقده بكل ساعة، لكن الحمد الله الذي اختاره شهيداً".
وتتابع بحسرة وألم:" رامي كان هو أجواء رمضان وفرحته انطفأت مع استشهاده"، مضيفة:" كل رمضان كان بزين بيتنا وبيته بالفوانيس والزينة والإضاءة، رمضان هاد بيتنا تزين بصوره، وتوشح بالحزن عليه".
وأردفت بحزن:" رامي كان دائما يفرح الأطفال الأيتام والفقراء بشراء الفوانيس والزينة والطعام لهم، لكن اليوم رامي ما قدر حتى يفرح أولاده وأهله".
" عصير الخروب، المخللات، والجرجير والفجل، القطايف والحلويات" التي تُزين مائدة الإفطار، جميعها مرتبطة بـ "رامي"، فشرائها كان حكراً عليه ولا يسمح لأحد من أفراد العائلة بإحضارها، فهي بالنسبة له" مُتعة رمضان".
وتستذكر أم رامي فرحة نجلها حينما ترافقه لصلاة التراويح، ومن ثمّ زيارة أرحامهم، قائلة:" كان أسعد يوم عند رامي لما أصلي معه التراويح بالجامع، وبعدين نطلع لزيارة أحد الأقارب".
ورغم أن رمضان هذا العام لم يكن الأول بعد استشهاد" رامي" إلا أنه كان الأصعب على عائلته وأبنائه الثلاثة، فالحرب انتهت والجرح بدأ ينزف من جديد. وفق قولها.
وتُضيف:" رمضان الماضي كان رامي مستشهدا لكن ما شعرنا فيه كثيراً، فالحرب كانت مستمرة والنزوح والخوف والجوع والدمار لم يتوقف للحظة، والحرب لم تمنحنا فرصة للحزن على أبنائنا وأحبابنا"، مستدركا:" لكن رمضان هذا العام قَلب علينا المواجع، فراقها صعب كتير، ساعة السحور نفتقده، وعلى مائدة الإفطار نفتقده، ومع كل تفصيله نفتقده".
واستشهد الشاب رامي السويركي بتاريخ 4/12/2023م، بقذيفة دبابة بالرأس أثناء نزوحه وعائلته بأحدي مدارس وكالة الأونروا في بحي الشجاعية شرق مدينة غزة.
ذكريات لم تنطفئ
داخل بيتها المتواضع في مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، تجلس الشابة ألاء حماد أمام صورة عائلتها المٌعلقة بصدر البيت، تارةً تُحدق نظرها بملامحهم الغائبة تحت التراب، لتصدم بعد ثوانٍ معدودة أن ملامحهم ثابته لم تتغير منذ عام، وتارة أخرى توجه سيلاً من الأسئلة إليهم:" يما شو عملتي سحور؟، وانت يابا جبت قطايف اليوم؟ اخواتي واخواني وينكم ليه ما اتصلوا فيا؟" لتبقي الإجابة الوحيدة محصورة بدموع عينيها وحُرقة قلبها.
وتقضي "ألاء" معظم وقتها بين صور عائلتها وذكرياتها التي لا تتوقف، ورغم دخول شهر رمضان المبارك، لم يختلف حالها أبدا ولم يتغير شيء من نمط يومها المستمر منذ يوم استشهادهم، سوى بمزيد من الألم والحزن والإحساس بالفقد والشوق لهم. وفق قولها.
وتُضيف خلال حديثها لـ "الاستقلال":" رمضان ليس له طعم بعدما فقدت جميع أفراد عائلتي، هو فقط يُقلب عليا المواجع، ويُشعرني بضعفي ويُتمي، فأماكنهم الفارغة لا أحد يستطيع ملأها".
وتتابع والدموع تنهمر من عينيها:" مفتقده كل التفاصيل التي كنت أعيشها مع أهالي، تهاني رمضان والعزائم، والزيارات، والاجتماع على مائدة الإفطار، اعداد الطعام جميعها ذكريات تُضاعف علينا ألم فقدانهم".
لسنوات طويلة اعتادت "ألاء" وأطفالها أن يمضوا ليلة ثبوت هلال شهر رمضان المبارك مع عائلتها، بأجواء مليئة بالفرح والسعادة، يضيئون أحبال الزينة والفوانيس، ويمرحون بالألعاب النارية ابتهاجاً بحلول رمضان، مضيفةً:" كنا نقعد لنصف الليل نضحك ونسترجع ذكرياتنا سوا، كل هذه الأجواء ماتت معهم".
بعد لحظاتٍ من الصمت، نظرت "ألاء" لباب منزلها، وقالت:" الباب ما كان يتسكر، كل يوم واحد من اهلي بزورني، لكن أين هم الآن؟ قتلوهم وتركوني مع ذكرياتهم التي لا تنطفأ".
وتشعر "ألاء" بالوحدة منذ استشهاد عائلتها المكونة من 13 فرداَ، "والديها وأخواتها واخوانها وأبنائهم"، إثر استهداف طائرات الإحتلال منزلهم وتسويته بالأرض بتاريخ 22/2/2023، فلم تعد تشعر بفرحة أي مناسبة.
التعليقات : 0