غزة-أحمد حمدي:
يعيش آلاف من الفلسطينيين العالقين خارج قطاع غزة حالة من الحنين والتوق للعودة، وسط مشاعر القلق والانتظار والشوق لذكرياتهم في القطاع، رغم ما اكتنف مدنه ومحافظاته من دمار وخراب بفعل آلة الحرب الإسرائيلية المستمرة منذ أكثر من عام ونصف.
ولعل ما دفع هؤلاء العالقين للسفر من أسباب تنوعت ما بين العلاج، أو الدراسة، أو العمل، أو النجاة من الإبادة، لكن أحدًا منهم لم يكن يتوقع أن يتحول وجوده المؤقت في الخارج إلى إقامة قسرية مفتوحة على المجهول.
ومنذ إغلاق معبر رفح البري في مايو/آيار 2024، تعطّلت ظروف العودة، وتفاقمت معاناة العالقين بين شتات الجغرافيا ومآسي أحوال الأهل والأصدقاء، حيث فقدوا أقارب أو منازل تحت القصف، فيما بات التواصل مع أهلهم وذويهم مهمة صعبة بسبب الانقطاع المتكرر للكهرباء والاتصالات.
وفيما يناضل هؤلاء لتأمين احتياجاتهم المعيشية اليومية في بلدان اللجوء المؤقت، يعيش معظمهم تحت وطأة مشاعر الغربة، وعقدة الذنب والحنين لذكريات الوطن، والخوف من ألا يُسمح لهم بالعودة مجددًا، وسط تحذيرات فلسطينية من مخططات تهجير أو تغيير ديمغرافي محتمل.
ظروف صعبة
داخل شقة صغيرة في إحدى عواصم الدول العربية، تعيش أم محمد المصري (54 عامًا)، حالة من القلق الممزوج بالعجز منذ أن وجدت نفسها عالقة خارج قطاع غزة بعد اندلاع الحرب.
غادرت المصري قبل أيام فقط من الحرب لتجري عدة عمليات جراحية بسبب مرضها بالسرطان، ظنًّا منها أنها ستعود بعد شهر واحد، لكنها لا تزال حتى اليوم، بعد أكثر من عام، غريبة عن منزلها وأبنائها وبيتها الذي وصلتها أنباء تدميره فكانت بمثابة الفاجعة التي منيت بها في غربة قاسية ولجوء مرير.
"ما جبتش معي ما يكفي من نقود لكل هذا الوقت الطويل، وما كنت مفكرة إني رح أبعد عن أولادي طول هالفترة" تقول المصري لـ"الاستقلال"، وهي تحدق في شاشة هاتفها القديم، تراقب أخبار غزة وتتمنى أن يظهر خبر يؤكد انتهاء الحرب أو الوصول لتهدئة مؤقتة.
تشير المصري إلى أنها كانت ترفض طلبات المساعدة من أي أحد في بداية الحرب، لكن مع مرور الوقت، وجدت نفسها مضطرة لقبول المساعدة من المبادرات التي تنظمها مؤسسات خيرية وإغاثية لدعم العالقين من غزة، من أجل سد بعضًا من احتياجاتها أو توفير أقساط الإيجار لشقتها المتواضعة.
ورغم ما تعيشه المصري من ألم الغربة إلا أن أكثر ما تخشاه هو أن تبقى عالقة إلى أجل غير مسمى، خاصة مع ازدياد الحديث في الإعلام العبري عن مشاريع تهجير قسري لسكان غزة. وتختتم بقولها:"إذا ما رجعت على غزة، مش بس بكون فقدت وطني.. بكون فقدت نفسي وأنفاسي".
غربة وحنين
أما يوسف الأسطل (32 عامًا) فقد غادر غزة في منتصف سبتمبر / أيلول 2023، لمواصلة دراسته في الهندسة في تركيا، وكان يحلم بالعودة في إجازة العام الدراسي ليزور والدته المريضة في مدينة خان يونس جنوب قطاع غزة، بيد أن اندلاع الحرب، منعته من الزيارة، وبات الشوق لرؤية أهله وذويه بمثابة الحلم بعيد المنال.
بعينين دامعتين يقول الأسطل لـ"الاستقلال": "ما فيش إشي أصعب من إنك تسمع انفجار في منطقتك ومش عارف إذا أهلك عايشين ولا لأ".
ويضيف الشاب الجامعي قائلاً: أتابع أخبار الحرب لحظة بلحظة، عبر منصات الأخبار ومجموعات الواتساب التي غالبًا ما تصمت فجأة مع انقطاع الإنترنت في القطاع، وحينها أحاول التقاط أي خبر من التلفاز قد يطفئ نار القلق الذي يساورني في كل لحظة".
انتظار بفارغ الصبر
أما خالد قنديل (62 عامًا) فينتظر بفارغ الصبر قرب افتتاح معبر رفح للعودة إلى ما تبقى من منزله بمدينة خان يونس، لكنه على علم بمدى المأساة التي ستحل عليه بمجرد العودة، ويقول: نتابع أخبار الحرب ويبدو أن غزة التي تركناها لن نعرفها مجددًا حين عودتنا لها.
يضيف قنديل لـ"الاستقلال" قائلاً: إن الأوضاع في خارج القطاع ليست وردية، وإن الغلاء استشرى في كل شيء، فضلاً عن أن معدلات البطالة ارتفعت في غالبية الدول لأبنائها فكيف بالمقيمين فيها.
ويشير قنديل إلى أن كثيرًا من العالقين باتوا يعيشون على نفقتهم الخاصة التي بدأت تنفد. ويضيف: القليل من العالقين حصل على دعم من أقاربه أو جمعيات خيرية ومؤسسات إغاثية، ولقد اضطرت للعمل في مطعم صغير كي أوفر أجرة السكن، وبعض نفقاتي التي تزداد يومًا بعد يوم.
ظاهرة نفسية
بدوره، يقول الأخصائي النفسي د. رجب أبو رمضان، إن كثيرًا من العالقين يعانون مما يُعرف بـ"عقدة الناجي".
وأضاف أبو رمضان في حديثه لـ"الاستقلال"، أن هؤلاء العالقين قد يشعرون بالذنب لأنهم نجوا من أهوال الحرب بينما استشهد أصدقاؤهم وأقاربهم، مضيفًا: هذا يُدخلهم في دوامة اكتئاب، خصوصًا مع انعدام الأفق للعودة."
وبيّن الأخصائي بالصحة النفسية أن الحنين والقلق على الأهل يجعل الغربة أكثر قسوة، خصوصًا مع افتقاد الشعور بالأمان والانتماء، فضلاً عن أنهم يعيشون صراعًا داخليًا يُترجم في كثير من الأحيان لاضطراب في النوم ونوبات بكاء أو حتى رغبة لا شعورية في إيذاء الذات".
النجاة النفسية
ويشير أبو رمضان إلى أن النجاة النفسية للعالقين لا تقل أهمية عن النجاة الجسدية، عبر ضرورة اتباع إجراءات التفريغ النفسي الآمن من خلال مجموعات دعم عائلية أو أصدقاء في الخارج للتنفيس عن مشاعرهم، و تجنب العزلة عبر خلق دائرة اجتماعية واسعة، أو حتى التفاعل عبر الإنترنت مع الأهل وهذا قد يصنع فارقًا كبيرًا في الاستقرار النفسي، بحسب أبو رمضان.
ورغم استمرار الحرب وتواصل الإبادة إلا أن ما ينتاب العالقين من مشاعر الحنين في العودة إلى ما تبقى من انقاض منازلهم يبقى الحلم الوحيد في عناقهم بعائلاتهم، وأن تعود ذكرياتهم التي تركوها خلفهم أمنيات مؤجلة تنتظر وقف الحرب وانخماد نار لهيبها.
التعليقات : 0