غزة/ دعاء الحطاب:
في مخيم التوبة للنازحين بمدينة دير البلح وسط قطاع غزة، وداخل خيمةٍ صغيرة مصنوعة من "النايلون والقماش"، وعلى حصيرة مهترئة يجلس عشرات الطلبة أمام المعلمة صابرين السيقلي، وعلامات السعادة تبدو واضحةً على ملامحهم البريئة والتي أرهقتها حياة الخيام، للمشاركة في النشاطات التعليمية والترفيهية بعد مرور عام كام على الانقطاع عن الدراسة بسبب الحرب الاسرائيلية على القطاع.
وتحاول "السيقلي" جاهدة لمُحاكاة البيئة التعليمية الواقعية بالأساليب التعلمية والتربوية الحديثة كافة، حيث تبدأ يومها مع الطلبة بطابور الصباح وتحية العلم، وممارسة بعض الأنشطة والفعاليات الترفيهية كـ "التمارين الرياضية، التعليم بالقصص والحكايات، والرسم".
مٌبادرة "السيقلي" ليست الوحيدة من نوعها بقطاع غزة، فمؤخراً انطلقت العديد من المُبادرات التعليمية الفردية بين الخيام وبأدواتٍ بدائية يسعى أصحابها من خلالها إلى الحفاظ على تعليم الأجيال الناشئة رغم الظروف القاسية، وإبقاء الطلبة مرتبطين بالمدارس.
وتعطلت العملية التعليمية في القطاع، منذ بداية الحرب الإسرائيلية في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وما يزال مصيرها مجهولاً بعد تدمير غالبية الجامعات والمعاهد المتوسطة، والمئات من المدارس الحكومية والتابعة لوكالة الغوث الدولية "الأونروا".
وبحسب آخر إحصائيات المكتب الإعلامي الحكومي بالقطاع، فإن جيش الاحتلال الإسرائيلي دمر منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 نحو 125 مدرسة وجامعة بشكل كلي، و337 بشكل جزئي.
مُحاولة لإنقاذ العقل
"السيقلي" كانت تعمل بمدرسة المتميزون الحديثة، التي توقف عن عملها وانقطع راتبها بسبب حرب الإبادة على غزة، وأُجبرت على النزوح عدة مرات من مكان لأخر، حتى استقرت في مخيم التوبة للنازحين بمدينة دير البلح.
وبعد اسبوعين فقط، قررت "السيقلي" إنشاء خيمة تعليمية مُسماه بـ" رغم الألم" لتقديم خدمات التعليم والدعم النفسي والاجتماعي للأطفال النازحين دون مُقابل، بمحاولةٍ منها لإنقاذ عقل الطلبة وابقائهم مرتبطين بالمدارس في هذا الوقت العصيب. وفق قولها.
وأضافت المعلمة السيقلي لـ "الاستقلال": "صحيح أن الطفل بحاجة ماسة للأمان والغذاء الصحي أكثر من أي وقتٍ مضي، لكن بالوقت ذاته انقاذ عقل الطفل مهمه أساسية وضرورة مُلحة لاسيما بعد الانقطاع التام عن العمليات التعليمية لمدة عام".
وأوضحت أن حرب التجهيل لا تقل خطراّ عن حرب الإبادة الجماعية المُستمرة في غزة منذ أكثر من عام، متابعة" أن الأطفال اليوم هم مستقبل الغد، اليوم طفل غداً قائد، وأنا كمعلمه من واجبي أن أحاول انقاذ مستقبله ولو بمعلومة أو قيمة بسيطة أغرسها بعقله، أو بنشاط يُعزز من سلوكياته الصحيحة حتى لو في ظل الحرب".
اقبال وترحيب
وتركز مبادرة "السيقلي" على تعليم القاعدة النورانية والمواد الأساسية الثلاث "اللغة العربية والإنجليزية والرياضيات"، والتفريغ النفسي باستخدام أساليب التعليم الحديثة كـ "الحكواتي والأسلوب القصصي والألعاب والرسم بالألوان والمجموعات التعاونية"، حيث حظيت بإقبال كبير من الطلبة، مقدرةً عدد المستفيدين أكثر من 300طفل وطفلة.
وأشارت الى أنها بالرغم من قله المواد والامكانيات، تحاول جاهدة بأن تجعل من الخيمة أشبه بالصف سابقاً.
وبينت أن الاقبال الكبير من الطلبة على "الخيمة التعليمية، وعدم اتساع المكان، دفعها إلى توزيع الطلبة على أربع فترات، مدة كُل فترة ساعتين من الزمن، حيث يبدأ الدوام من الساعة الثامنة حتى الرابعة عصراً، ثلاثة أيام بالأسبوع.
وأردفت:" وجدنا دافعية كبيرة لدى الأطفال وحباً كبيراً للتعلم، رغم الظروف الصعبة التي مروا فيها والمشاهد القاسية التي شاهدوها خلال عام كامل من الحرب، إلا أنهم مازالوا مُقبلين على التعليم".
وترى أن أهالي قطاع غزة يدركون أهمية التعليم ويخشون من تداعيات الانقطاع عن المدارس، ويغتنمون أي فرصة متاحة لتدريس أبنائهم.
ونوهت الى أن نجاح المبادرة والاقبال الكبير عليها، وانضمام متطوعين جدد إليها حتى أصبح فريق مكون من عشر مُعلمات، دفعها لافتتاح خيمة جديدة لاستيعاب المزيد من الطلبة، وذلك بدعم من أصحاب الأيادي البيضاء.
صعوبات جمة
وتواجه المبادرة صعوبات جمة في مقدمتها عدم توفر البيئة الصفية اللازمة لتعليم الطلبة، ونقص الخدمات اللوجستية كالمقاعد والقرطاسية والجوائز التحفيزية، ناهيك عن حالة الاكتظاظ في الصف التعليمي، وفق السيقلي.
ولفت النظر إلى أن فريق المُتطوعين عمل لفترة طويلة على تسليط الضوء على مُعاناة الطلبة واحتياجاتهم لتوفير بيئة تعليمية متواضعة في ظل انعدام كُل شيء، مبينة أن الطلبة بحاجة إلى قرطاسية وفراش أو مقاعد للجلوس عليها بدلاً من شادر النايلون، وكذلك هم بحاجة الي خيام مستورة تقيهم من برد الشتاء وتحميهم من تساقط الامطار عليهم".
وطالبت اليونيسيف والمؤسسات الداعمة لحقوق الطفل بالوقوف عند مسؤولياتها ودعم المُبادرات والمراكز التعليمية بغزة، وإنقاذ المسيرة التعليمية للأطفال، فالحرب طالت ولا أفق قريبه لإنهائها.
وشددت على ضرورة دعم صمود المُعلمين الذين يعانون من ويلات الحرب كباقي المواطنين بغزة، قائلة:" أنا هنا نازحة بالمخيم وأعيش معاناة المواطنين فأنا لست أفضل منهم ولا هم أفضل مني، حالنا واحد ومصابنا جلل وفقدنا أغلي الناس على قلوبنا وأعز ما نملك، لكننا بإذن الله صابرين صامدين مُكملين حياتنا".
الاطمئنان على مستقبلهم
رغم الظروف القاسية التي يعيشها النازحون بين الخيام وبساطة الأدوات، إلا أن الخيمة التعليمية أعادت للمواطنة أم حسن سكر بعض الاطمئنان على مستقبل أطفالها، قائلة: "منذ إغلاق المدارس وتوقف التعليم أشعر بأن مستقبل أولادي يضيع مني، لأنهم كانوا متميزين جداً ومن أوائل الطلبة".
وتُضيف لـ "الاستقلال": "أولادي قبل الحرب كانوا مشغولين بالمذاكرة والمسابقات التعليمية، لكن اليوم يقضون جُل وقتهم إما بالصف على طابور المياه أو بجمع الكارتون والنايلون لإشعال النار، وغالباً بالمشاجرات مع أصحابهم".
وتتابع:" مبسوطين جداً أنه وجدنا مُدرسين يعلموا أولادنا، ومستعدين ينقذوا مستقبلهم رغم كل شيء، خصوصاً أنه أولادنا نسيوا التعليم كله بسبب الحرب والخوف والمشاهد القاسية التى شاهدوها، والنزوح المتكرر من مكان لأخر".
وذكرت أن أبناءها يتعلمون كثيراً من الأمور المفيدة التي أحدثت فرقاً واضحاً في سلوكهم العام، مؤكدةً على أن " شعبنا مُصرّ على محاربة سياسة التجهيل وأن الحرب لن توقفنا عن التعليم خاصة أننا شعبٌ معروف بحبه للتعليم ".
مواجهة سياسة التجهيل
وما إن انطلقت المٌبادرات التعليمية للأطفال المقيمين داخل مراكز الإيواء التابعة لها، حتى سارعت المواطنة أم عبيدة زيارة لتسجيل أطفالها الثلاثة.
وتقول أم عبيدة لـ "الاستقلال":" بسبب الحرب اللعينة على القطاع، أبناؤنا حُرموا من التعليم وباتوا يُعانون من الجهل والتضليل، وعندما بدأت المبادرات التعليمية كنا مٌتحمسون جداً لإرسالهم واستئناف تعليمهم وإنقاذ مستقبلهم".
وتُعرب عن استيائها حيال ما وصفته بـ "تدهور" في سلوك الأطفال نتيجة عدم التحاقهم بالمدارس لمدة عام كامل، واضطرارهم للعيش داخل مراكز الإيواء التي تفتقد أدني مُتطلبات الحياة الآدمية".
وتوضح أن الالتحاق بالمراكز والمبادرات التعليمية رغم ظروف الحرب القاسية يُشكل تحدياً كبيراً للاحتلال وسياساته الرامية لتجهيل أبنائنا، مستدركة:" لكن من المهم والضروري عدم الركون إلى هذا الواقع الذي فرضه الاحتلال خلال الحرب وأعاق به حياتنا".
التعليقات : 0