غزة / معتز شاهين:
وسط أجواء من الغموض والترقّب، تدخل مفاوضات وقف إطلاق النار في غزة منعطفًا حاسمًا، تتنازع فيه فرص التوصل إلى انفراجة سياسية مع خطر الانهيار الكامل، في ظل مساعٍ دولية مكثفة، وجدل محتدم بين مطالب فلسطينية بوقف العدوان وضمانات إنسانية، ومناورات إسرائيلية لفرض تسوية تخدم أهدافها.
وتتباين قراءات المحللين لما يجري خلف الكواليس: فبين من يصف اللحظة بـ»المخاض الصعب» الذي قد يفضي إلى تسوية جزئية أو مرحلية، ومن يراها مجرد «مسرحية تفاوضية» تفتقر للجدية والنية السياسية، يبقى الشارع الفلسطيني يترقب نتائج هذه التحركات بحذر وأمل مشوبين بالقلق.
وأعلن البيت الأبيض، مساء الأربعاء، أن المبعوث الأميركي الخاص بالرئيس دونالد ترامب، ستيف ويتكوف، سيلتقي في أوروبا مسؤولين من الشرق الأوسط لبحث مقترح وقف إطلاق النار بغزة والإفراج عن الرهائن.
وفي وقت سابق من أمس أعلن البيت الأبيض توجه ويتكوف إلى الشرق الأوسط لعقد محادثاتٍ بشأن صفقة وقف إطلاق النار، ووضعِ اللمساتِ الأخيرة على إنشاءِ ممرٍ إنساني بشأن المساعدات في غزة.
وأفادت مصادر فلسطينية مقرّبة من المفاوضات، بأنّ حركة حماس وفصائل المقاومة سلّموا ردّهم الرسمي للوسطاء وذلك بعد إجراء مشاورات موسّعة فيما بينهم بشأن المقترح المقدَّم للتوصّل إلى وقف دائم لإطلاق النار.
وأوضحت المصادر أنّ الردّ ركّز بشكل أساسي على معالجة ملف دخول المساعدات الإنسانية، وخرائط انسحاب الاحتلال، وضمانات تثبيت وقف العدوان.
ومنذ 6 يوليو/ تموز الجاري، يتفاوض الطرفان في الدوحة، بوساطة قطر ومصر ودعم الولايات المتحدة، لإبرام اتفاق لتبادل أسرى ووقف إطلاق النار في قطاع غزة. ومرارا أكدت فصائل المقاومة استعدادها لإطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين «دفعة واحدة»، مقابل إنهاء حرب الإبادة، وانسحاب جيش الاحتلال من غزة. في حين تؤكد المعارضة الإسرائيلية أن نتنياهو يرغب في صفقات جزئية تتيح استمرار الحرب، بما يضمن استمراره بالسلطة، عبر الاستجابة للجناح اليميني الأكثر تطرفا في حكومته.
مخاض عسير
واستعرض الكاتب والمحلل السياسي عصمت منصور المشهد السياسي الراهن بوصفه لحظة حرجة ومفتوحة على الاحتمالات كافة ، تتأرجح بين التفاؤل الحذر والتخوف من التعثر أو الانهيار، وسط أجواء يطغى عليها الترقب والضبابية.
وأشار منصور لـ «الاستقلال»، إلى أن الجميع «على أعصابه»، وأن «اللحظة حاسمة فعلاً، لكنها غير محسومة»، إذ لا يمكن الجزم بمآلات الأمور في ظل تقاطع السيناريوهات واحتمالية تحقق أي منها، سواء النجاح الجزئي أو التعثر المؤقت أو حتى الفشل الكامل.
وأوضح منصور أن جوهر المفاوضات يتمثل في أن حركة حماس تناقش مقترحاً لا ترغب به من حيث المبدأ، لكنها تبذل جهوداً لتحسينه وصياغته بما يجعله مقبولاً في الحد الأدنى، بينما يسعى رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو لاستغلال المقترح كأداة لفرض تسوية تُنهي الحرب وفق رؤيته وشروطه، دون تغيير في أهدافه أو نهجه العسكري.
وحذر منصور من الإفراط في التفاؤل إزاء تقدم المسار التفاوضي، مشيراً إلى أن حالة الضغط الشديد – سواء على الأرض أو في السياقين السياسي والإنساني – لا تعني بالضرورة قرب اتفاق نهائي، بل هي جزء من مشهد معقد تتداخل فيه عوامل الانفراج مع مؤشرات التصعيد.
وأكد أن تعنت الاحتلال الإسرائيلي وتكتيكاته التفاوضية مثل التراجع عن تفاهمات سابقة أو التلاعب بالخرائط يشكلان عقبة أساسية أمام الوصول إلى حل متوازن وسريع.
ورغم هذه التحديات، يرى منصور أن الجهود الإقليمية والدولية، خاصة من جانب قطر ومصر والولايات المتحدة، تقترب من لحظة حاسمة، مع اقتراب اجتماع مرتقب في روما يُتوقع أن يشهد مناقشة نسخة معدلة من المقترح تأخذ بملاحظات حماس. وأوضح أن حتى التقديرات الإسرائيلية تُقر بأن هذه الملاحظات ليست كافية لإفشال الاتفاق، لكنها تتطلب وقتاً ومزيداً من التفاوض.
ويرى المحلل السياسي أن أي اتفاق يُنهي الحرب سيكون مرحباً به، لكنه لن يأتي إلا عبر «مخاض عسير» يشبه «الولادة القيصرية»، وسط ضغوط كثيفة ومخاطر كبيرة. فالصورة النهائية ما زالت غامضة، وكل الخيارات من التعثر إلى النجاح إلى الانهيار تبقى مطروحة، وقد تتوقف الأمور برمتها على تفاصيل صغيرة.
مسرحية تفاوضية
بدوره وصف الكاتب والمحلل السياسي عدنان الصباح المشهد السياسي الراهن، وما يدور من مفاوضات لوقف العدوان الإسرائيلي على غزة، بأنه «مسرحية تفاوضية هزيلة»، يقودها الاحتلال الإسرائيلي والولايات المتحدة، في ظل غياب أي إرادة حقيقية للوصول إلى اتفاق عادل أو لوقف جرائم الحرب.
وفي حوار خاص مع «الاستقلال»، شكك الصباح بجدية المسار التفاوضي، قائلًا إنّ الاحتلال وواشنطن يديرون مشهدًا شكليًا هدفه تحميل حركة حماس والمقاومة الفلسطينية مسؤولية التعثر، بينما يمضي الاحتلال في فرض وقائع دموية على الأرض، عبر القتل الجماعي والتجويع والدمار.
وأوضح الصباح أن تكرار المقترحات والخرائط وتبديل المواقف، دون تلبية الحد الأدنى من مطالب الشعب الفلسطيني، يؤكد أن «الاحتلال لا يسعى لأي حل، وإنما يراوغ فقط لتحسين صورته أمام العالم، وإظهار نفسه كطرف جاد في التفاوض، بينما يتّهم حماس بالتعنت».
وبشأن الاجتماع المرتقب في روما، رأى الصباح أنه ليس إلا جزءًا من المسرحية نفسها، معتبرًا أن القضايا الجدية لا تحتاج لاجتماعات بروتوكولية في عواصم بعيدة، بل يمكن إنجازها باتصالات مباشرة إذا وُجدت نية حقيقية. وقال: «لو كان هناك جدية، لأمر ترامب نتنياهو باتخاذ قرار، لكن كل ما يجري هدفه خلط الأوراق».
وأكد أن ما يجري حاليًا في غزة ليس فقط قصفًا أو تجويعًا، بل هو محاولة منهجية لتحويل القطاع إلى أرض ميتة، وإلى قنبلة بشرية موقوتة على حدود مصر، قائلاً: «يريدون حشر الناس في الجنوب وتحويلهم إلى عبء على مصر، ليتخلّص الاحتلال من تبعات الأزمة الإنسانية ويُصدرها خارج حدوده».
وفي قراءته للسيناريوهات المتوقعة، استبعد الصباح التوصل إلى اتفاق قريب، واعتبر أن الحديث عن «صفقة وشيكة» خلال عطلة الكنيست مجرد تضليل. وأوضح: «نتنياهو يزعم أنه يريد صفقة، لكنه يرفض بقاء حماس أو الاعتراف بها... وهذا نقيض لأي اتفاق».
ورجّح الصباح أن نشهد تصعيدًا من نوع جديد، يتمثل في فرض تهدئة أحادية من قبل الولايات المتحدة، تحت عنوان «وقف إطلاق النار الإنساني»، دون اتفاق شامل، بحيث تواصل «إسرائيل» فرض سيطرتها والمقاومة تبقى تحت ضغط الجوع والمرض والحرمان.
وأضاف: «سيُقال إن حماس ترفض الحلول، وستُشيطن مرة أخرى، بينما الاحتلال يتنفس الصعداء من ضغط الخسائر، ويتحصّن خلف خطوطه، ويبدأ في عسكرة المساعدات والإغاثة».
وختم الصباح حديثه بالتأكيد على أن المنطقة ليست مقبلة على هدوء، بل على شكل جديد من التفجير، ليس بالضرورة عسكريًا، بل من خلال أدوات التجويع والعطش والدمار الاجتماعي، التي قال إنها باتت «السلاح الرئيسي للاحتلال في هذه المرحلة».
التعليقات : 0