على وَقْعِ الحرب

فتياتُ غزّةَ "النازِحَات" يصنعْنَ الخبزَ بتحدِّيهنَّ الظروفَ الصعبة

فتياتُ غزّةَ
تقارير وحوارات

غزة/ إيناس الزرد:

على وقْعِ صوت الطائرات والانفجارات، تستيقظ الشابّة نسمة (19 عاماً) كلّ يوم قبل شروق أشعة الشمس، تلتفُّ بمِعطفِها المهترئ؛ خوفًا من نَخرِ البردِ جسمها النحيل، خارجةً بخطواتٍ ثقيلةٍ في شوارعَ امتلأَتْ بأنينِ ساكِنِي الخيام، تلتفتُ حولَها يمينًا ويسارًا؛ خوفًا وقهرًا وجوعًا ونزوحًا في منطقة المواصي بمدينة خانيونس جنوب قطاع غزة، تُعيلُ أسرتَها المكوَّنة من 8 أفراد وهي البنت الكبرى بعدما سلبت الحرب مستقبلها وتركتها دون دراسةٍ أو تعليم.

 

تسير نسمة مسافاتٍ طويلةً بأقدام متعثّرة وعيونٍ حائرة وقلبٍ يبكي فقرًا، تحلم باليوم الذي ستنتهي فيه الحرب، وتودّع الأيام القاسية التي تعيشها؛ لتعود لحياتها الدراسية وتبني مستقبلًا وحياةً أفضل كانت تحلم بها منذ صِغرها، فالحرب غيّرت وجهتها، فكم من حلمٍ توقّف وكم من فرحةٍ لم تكتمل، حيث أصبحت عاملةً في أحدِ مشاريع طهي الخبز لبيعِهِ للنازحين.

 

سُرعان ما تصل نسمة إلى مكان عملها، تجلس في زاوية صغيرة، تشمِّر عن ساعديها، وتضع أوانيَ العجْنِ وتضيف كيس الطحين بالكامل، وتسكب المياه الساخنة عليه، تبدأ بحركات متتالية وبطيئة في العجن بينما تتصبّبُ عرَقاً حتى تصل إلى عجينة متماسكة تقطعها وتجهّزها للخبز على فرن الطين اليدوي بمساعدة عاملة أخرى، ثم تعودُ للعمل مرّة ثانية وثالثة ورابعة، ليصل الأمر بها إلى عجْن ما يقارب 6 أكياس طحين، مقدار كلّ كيس 25 كيلوغراماً، ما يُنهِكُ ظهرَها وعظامَها مقابلَ عائدٍ ماديّ قدره 30 شيكلاً، تحاول به سدَّ رمقِ أسرتها.

 

تقول نسمة وهي تُسدل يديها إلى أسفلِ ظهرها بسبب التعب الشديد: "الحرب دمّرت حياتَنا وأحلامَنا، كنت أحلم أن أنتهي من دراسة الثانوية العامة لألتحق بتخصّص جامعيّ، أمّا اليوم فأكبرُ همّي هو أن أوفِّر لقمة عَيْش لأخواتي، خاصة أن والدي لا يقوى على توفير كلّ احتياجاتنا، أساعده لتوفير قوتِ يومنا، خصوصًا أننا نازحون ونعيش في خيمة وسط ارتفاع أسعار السلع الغذائية، فالحياة مرهِقة ومكلِفة للغاية".

 

تُضيف نسمة لـ"الاستقلال": "بعد رجوعي من عملي، أعود إلى الخيمة بجسمٍ منهَكٍ تمامًا عند الساعة الخامسة مساءً، ونظرات الخوف تملأ عيني خِشيةَ أن يصيبني أيَّ مكروه، بعدها أكمل دوري في مساعدة والدتي بإعداد الطعام لأخوتي، والقيام بالغسيل اليدويّ وتعبئة المياه اللازمة للاستخدامات اليومية، ثم أخلُد للنوم؛ لأستيقظ على يومٍ روتينيّ جديد لا يختلف عن سابقه".

 

وفي أحدِ المخيّمات المجاورة للشابّة نسمة، تُقيم أُمّ صالح (28 عامًا) داخل خيمةٍ صغيرة، تستيقظ كلَّ يوم في تمام الساعة السادسة صباحاً، تُوقِظ أطفالَها ونبضاتُ قلبها تتسارع؛ لترتِّبَ فراشَهم بأيدٍ متعبَة وبشكل سريع، ثم تباشر عملَها في استقبال طلبات الخبز الذي تقوم بإعداده شخصياً من بداية عجينه إلى تقطيعه وترقيقه، ومن ثَمَّ خبزِه على فرنِ الطين اليدويّ، حيث أرغمتها الظروف الصعبة على العمل لتأمين لقمة العيش لأولادها الثلاثة وملْء بطونهم؛ ولتوفِّر علاجَ طفلها المريض البالغ من العمر 11 شهراً، والذي وُلِدَ خلال الحرب الراهنة، حيث يعاني من مشكلةٍ جسمانية تتطلّب تدخُّلًا طبياً، كما يحتاج إلى مستلزمات متعدّدة من حليبٍ وحفاضاتٍ وأكياسٍ خاصة بالعملية.

تحدٍّ للظروف

تصارع أُمّ صالح الحياة، متحدّيةً ظروف النزوح وقسوة الأيام، تُظهِر ثباتًا وتُخفي خلفه قلقاً شديداً على طفلها الذي وُلِدَ خلال حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة، ويعاني من مشكلة طبية تتمثّل في عدم قدرته على التبرُّز بشكلٍ طبيعيّ؛ بسبب عدم اكتمال الأمعاء لديه، واضطُرّ الأطباءُ لإجراء عملية جراحية له تمثّلت في إخراج الأمعاء من جانب منطقة البطن لمدة ثلاثة أشهر؛ حتى تتمكن أعصاب الأمعاء من الاكتمال، وبعدها يتمُّ إخضاعُه لعمليات أخري تتمثّل في إرجاع الأمعاء لمكانها وربطها في مكانها الصحيح.

 

تكدح أُمّ صالح في صمتٍ شديد، تَعجنُ الخبز من قسوة الأيام عليها، وتَخبزهُ بتحدٍّ وصبر، متحملةً كلَّ ظروفها الصعبة وتعبَ جسمها المُنهَك؛ لتبقى قوية في خِضَم معاناتها، تحقّق متطلبات أطفالها، فشكل الخبز الذي تصنعه بيديها ليس مجرّد عمل فقط، بل هو عنوان قوتها ورزقها في ظلّ ظروفها المعيشية الصعبة، متحملةً مسؤوليةً كبيرةً على عاتقها.

 

بين كلِّ لحظةٍ وأخرى تعمل فيها، تتفقّد طفلها بعينيها الغارقتين في العمل، تقول أُمّ صالح: "إنها معروفة في مخيمها والمخيمات المجاورة بإتقانها صنعَ الخبز، ونظافتها التي تجعل الزبائن يأتون من كلّ مكان لطلب توصياتها، تتحمل كلّ التعب والإرهاق في سبيل أن تجني من عملها ما يكفي لسدِّ حاجيات أبنائها وطفلها المريض".

 

وتضيف أُمّ صالح، وهي تمسح يديها من فُتاتِ العجين المتبقّي من أثر عملها، تقول: "رغم ما عانيتُ خلال الحرب من نزوحٍ وجوعٍ وتشريد، وولادتي لطفلي المريض تحت وقْع القصف والخوف، فإن شُعلة الأمل ما زالت مُوقدةً في قلبي بأن الحرب ستنتهي، وسأعود بطفلي إلى غزة سليمًا مُعافَى من كلِّ داءٍ أصابه".

 

يُذكَر أن برنامج "الأغذية العالمي" حذّر من أن أكثر من مليون شخصٍ يعانون من الجوع في غزة مع نفاد إمدادات الغذاء والمياه.

 

 ودمّرت الغارات الإسرائيلية المخابزَ في جميع أنحاء القطاع، في حين أن العديد من المخابز المتبقية غير قادرة على العمل؛ بسبب نقص الوقود والدقيق.

التعليقات : 0

إضافة تعليق