غزة/ دعاء الحطّاب:
أمام خيمةٍ مهترئةٍ في منطقة المواصي الساحلية غرب مدينة خانيونس، وعلى شاطئ البحر تحديداً، يُشعِل محمود الفصيح (٣١ عاماً) موقدَ نارٍ؛ للحصول على شيءٍ من الدفء مع زوجته وأطفاله وسط البرد القارس، بعد مرور أيّام على وفاة طفلته الرضيعة "سيلا" بسبب البرد، بحسب الأطباء.
ففي ليلةٍ غائمةٍ باردةٍ لا يُسمَعُ فيها سوى صوت صفير الرياح العاتية، وأصوات الصواريخ والقذائف الإسرائيلية، نام محمود بجوار سرير طفلته "سيلا" التي لم تتجاوز الـ٢٢ يوماً، وهو يُحاول تدفئة جسدها الصغير من خلال (قِربَة) ماء ساخن باعتبارها وسيلة التدفئة الوحيدة لديه.
ومع دوران عقارب الساعة، وعند السادسة صباحاً، استيقظ محمود ليبدأ رحلته الشاقة في تلبية مطالب واحتياجات عائلته من "تعبئة المياه، وإشعال النار، وإحضار الطعام من (التِكية) وغيرها من الأعمال التي فرضتها الحرب عليه ومئات النازحين"؛ ليتفاجأ بتجمُّدِ طفلته "سيلا" وازرقاق جسدها الصغير من شدّة البرد، وفق قوله.
وبسرعة البرق، توجّه محمود بفلذة كبده "سيلا" إلى قسم الطوارئ للأطفال في مستشفى ناصر الطبيّ يوم الأربعاء الماضي؛ ليبدأ الأطباء بإجراء عملية إنعاش لقلبها، وما هي إلّا دقائق معدودة حتى أعلن الأطباء وفاتها؛ بسبب التجمُّد.
حكاية الطفلة "سيلا" ليست الفريدة من نوعها بقطاع غزة، فهناك داخل خيام النازحين المهترئة يواجه آلافُ الأطفال خطر الموت بالبرد القارس الذي ينهش أجسادهم الصغيرة ويقبض أرواحهم البريئة مع دخول فصل الشتاء، ليُضاف إلى مُسلسل الموت الذي يعيشون تفاصيله منذ بَدْءِ حرب الإبادة الإسرائيلية على القطاع بالسابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023م.
وارتفع عدد الأطفال الذين تُوفُّوا نتيجة البرد القارس في غزة إلى 6 أطفال حديثِي الولادة، حيث كان أحدثهم الرضيع علي البطران، وهو توأم الطفل الذي فارق الحياة، الأحد الماضي، ويبلغ من العمر شهرًا واحدًا، استُشهِدَ، الإثنين الماضي؛ نتيجة انخفاض درجات الحرارة والبرد الشديد، وفق وزارة الصحة بغزة.
وكان المفوّض العام لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) فيليب لازاريني، أفاد بأن أطفال غزة يتجمّدون حتى الموت؛ بسبب الطقس البارد وعدم وجود مأوى، مشيراً إلى أن "البطانيات والمراتب وغيرها من مستلزمات الشتاء عالقة في المنطقة منذ أشهر بانتظار الموافقة على الدخول إلى غزة".
ويتأثّر قطاع غزة بمنخفضٍ جوّي مصحوب بأمطار غزيرة وكتلة هوائية باردة ضربت الأراضي الفلسطينية منذ مساء الأحد.
ويأتي ذلك بالتزامُن مع استمرار القصف الإسرائيلي على مناطق مختلفة من القطاع ضمن إمعان جيش الاحتلال في الإبادة الجماعية؛ ما يُسفر عن استشهاد وإصابة عشرات المدنيّين يوميّاً.
وبدعمٍ أمريكي ترتكب "إسرائيل" منذ 7 أكتوبر 2023 إبادة جماعية في غزة، خلّفت 45,553 شهيداً و108,379جريحاً فلسطينياً، معظمهم من الأطفال والنساء وما يزيد على 11 ألف مفقود، وسط دمار هائل ومجاعة قتلت عشرات الأطفال والمسنين، في إحدى أسوأ الكوارث الإنسانية بالعالم.
"هربنا من الموتِ للموت"
وقال الفصيح خلال حديثه لـ"الاستقلال": "استيقظنا لنرى الفتاة مثل الخشب، وعندما فحصها الأطباء، لم يجدوا أيّة مشاكل صحية أو مشاكل خَلْقية، بل قالوا إن قلبها توقّف عن النبض؛ بسبب انخفاض درجة الحرارة أثناء الليل".
وأضاف بحسرة وألم: "سيلا وُلِدَت في الحرب، لكنّها ماتت من البرد".
وفي أواخر مارس الماضي، وقُبيل ساعات الفجر الأولى، عندما كانت الدبابات تُحاصِر مُجمّعَ الشفاء الطبيّ غرب مدينه غزة، خرج "الفصيح" وعائلته بأعجوبة تحت وطأة السلاح وتهديدات جنود الاحتلال نازحاً لمحافظة خانيونس.
لم يكُن يعلم "الفصيح" أن النزوح لمنطقة مواصي خانيونس جنوب القطاع - والمُصنّفَة بالمنطقة الإنسانية الآمنة - سيكون بداية لرحلة معاناة جديدة ومُضاعَفَة تنتهي بموت مولودته بصورةٍ لم تُصدّق، وفق قوله.
حياةٌ مأساويّة
ويُضيف: "ما توقعنا لِلَحظة أن فترة النزوح ستكون أقسى وأشدّ صعوبة من البقاء تحت القصف بغزة"، مُستدركاً: "هربنا من القصف والموت والدمار بغزة، عشان نموت هنا من البرد".
ويتابع: "لمّا نزحنا من الشفاء ما قدرنا نأخذ اشي معنا، طلعنا بملابسنا، ما قدرنا نأخذ فراش أو أغطية أو أدوات منزلية وغيرها".
وقال: "ننام على الرمال بلا أغطية، والخيمة لا تحمينا من البرد"، مُردِفاً: "مش عارف شو أحكي.. حياتنا مأساوية جدّاً ومُرهِقَة، والأطفال يمرضون باستمرار بسبب البرد وآثار الحرب".
ولا يُخفِي "الفصيح" خوفه وقلقه الشديدَيْن من أن يكون مصير طفليه -اللذَيْن لا يتجاوز عمرهما خمسة سنوات- كمصير شقيقتهما الرضيعة "سيلا"، في ظلّ استمرار حرب الإبادة الإسرائيلية وتفاقم أوضاع النازحين سوءاً، خاصة مع دخول فصل الشتاء".
وناشد العالم العربيّ والإسلاميّ بالتحرُّك الفوريّ والعاجل؛ لنُصرة أهل غزة ورفع الظلم والقهر عنهم، ووقف حرب الإبادة بحقهم، مضيفاً: "هذه حرب طاحنة، الّلي بصير معنا ما صار لأيّ إنسان بالعالم، بكفّي ظُلْم.. تعبنا".
يواجهونَ خطرَ الموت
وبدوره، أكّد مدير وحدة المعلومات بوزارة الصحة زاهر الوحيدي، أن أطفال غزة يواجهون خطر الموت نتيجة البرد القارس وانعدام وسائل التدفئة في خيام النازحين المصنوعة من القماش والنايلون، في ظلّ استمرار حرب الإبادة الإسرائيلية لأكثر من 14 شهراً.
وقال الوحيدي خلال حديثه لـ"الاستقلال": "6 أطفال رُضَّع تُوفُّوا بسبب البرد القارس منذ 23 ديسمبر الماضي، وقد يموت المزيد نتيجة البرد والظروف المعيشية القاسية في الخيام، ونقص المأوى ومستلزمات الشتاء الأساسية كـ"الملابس والفراش والأغطية".
ويتابع: "إنّ أجسام الأطفال الرُضَّع لا تتحمل البرودة وانخفاض درجات الحرارة، فهم لا يستطيعون القيام بأيّةِ حركة أو نشاط لتدفئة أنفسهم، ناهيك عن مساحة سطح جسم الطفل أكبر من مساحة أعضائه الداخلية؛ بالتالي يكون مُعرَّضاً أكثر من الفئات العُمرية الأخرى للإصابة بالبرد القارس والنوبات القلبية".
وبيّن أن نسبة الوفيات من الأطفال (الخُدَّج) الذين يدخلون غرفة العناية المكثفة أصبحت الضعف عمّا كانت علية قبل الحرب، حيث وصلت النسبة لـ8.7%.
ونوّه إلى أن الكثير من الأهالي يُتوفَّى أطفالُهُم ولا يبلغون ولا يصلون مستشفيات وزارة الصحة؛ بسبب خروجها عن الخدمة، وتعرُّض المناطق لاجتياحات مستمرة من قِبَل جيش الاحتلال الإسرائيلي، بالتالي لا توجد إحصائية دقيقة للعدد الحقيقي والفعلي لوفيات الأطفال.
وأوضح أن الحرب ألقت بظلالها على كافة شرائح المجتمع الغزيّ، إلّا أن الأطفال الرُضَّع كان لهم النصيب الأكبر، فمعظمهم يعانون من سوء التغذية وفُقدان الوزن؛ بسبب حرمانهم من الرضاعة الصحية والسليمة، مشيراً إلى أن الأمهات لا يحصلن على حصة غذائية مناسبة؛ بالتالي حليب الرضاعة يكون غيرَ كافٍ لإشباع الطفل ولا يُلبِّي احتياجاته الأساسية.
وطالب الوحيدي المجتمع الدولي ووزارة الصحة العالمية، بالقيام بواجباتهم الأساسية والإنسانية تجاه الأطفال والمواطنين بتقديم الرعاية الصحية، والضغط على الاحتلال الإسرائيلي؛ للسماح بإدخال المساعدات الطبية والأدوية إلى القطاع، منوِّهاً إلى أن نسبة العجز بالمستلزمات الطبية تفوق الـ80%.
التعليقات : 0