بعد تفريقهم عند حاجز "نتساريم"
أطفالٌ فصلَتْهم الحربُ عن عائلاتِهِم.. من دِفءِ العائلةِ إلى الملجَأ
غزة/ إيناس الزرد:
لحظات قاسية وحكايات صعبة، حملت بين طياتها وجعًا دفينًا لأطفال صغار، عاشوا مرارة الفقد وضياع طفولتهم من بين أحضان عائلتهم وتُرِكوا وحيدين، يواجهون مصيرهم دون سند يتكئون عليه، بعدما حاولوا الهروب من الموت المحقق مع ذويهم وأقاربهم عبر حاجز "نتساريم" الذي يفصل شمال قطاع غزة عن جنوبه، إلا أن غدر المحتل الذي لا يرحم فرّقهم عنهم برصاصهِ الغادر، وتركهم في حضن الملاجئ يكتوون بنار الفراق وغياب الأهل، يبحثون بين الوجوه عن أحبتهم لعلهم يجدونهم.
بعينَيْهِ الصغيرتَيْن الحائرتَيْن، ما زالت لحظة فقدان الطفل عبد الله (16 عامًا) لوالديه وإخوته عندما نزح من شمال قطاع غزة إلى الجنوب -حيث تم استهدافهم أثناء عبورهم حاجز "نتساريم" أمام ناظريه- عالقةً في ذاكرته وعقله، بعدما تُرِكَ وحيدًا على الحاجز يبكي استشهادهم وضياعه بعدهم، انهمرت دموعه بغزارة عندما تذكَّر كيف تفحَّمت أجسادهم أمام عينيه بعدما هربوا من الموت والجوع إلى الموت المحقق، فكيف لطفلٍ في عمره أن ينسى فقدانه لمَن أحب، وعندما بدأ يصارع الموت وحيداً، كان يبحث عن بارقة أمل تنقذه من حاجز الاحتلال والموت.
يقول عبد الرحمن لـ"الاستقلال": "بعد استهداف أهلي عبر حاجز "نتساريم" بقيت وحيدًا أحاول النجاة، فمشيت على الأقدام ما يقارب ٩ ساعات حتى وصلت إلى منطقة تُسمى (تبة النويري) بالنصيرات، حيث كانت هناك نقطة قريبة تابعة للصليب الأحمر، توجّهت إليها وأنا متعب وأخبرتهم بما حدث معي، وبعد ذلك سلّموني لمستشفي ناصر بمدينة خانيوس، وقاموا بالتنسيق مع أحد الملاجئ المخصّصة لإيواء الحالات التي فقدت ذويها ولم تجد أحدًا من أقاربهم".
وأضاف بصوتٍ خافت وهو يرقد على سريره في أحد الملاجئ التي قامت باحتضانه، وينظر بغرابة إلى ما حوله: "بعدما كنت أعيش في كَنَفِ أسرتي مطمئنًا، أصبحتُ مشتتًا وضائعًا، لا أقوى على العَيش دون عائلتي وأقاربي، وأصبحت غريبًا ولا أصدق كيف انقلبت حياتي رأسًا على عقب".
رحلة العذاب
أمّا الطفلة إيلين (12 عاماً) التي ترك والداها يديها الصغيرتين بعدما كانت تتمسّك بهما بقوة خلال نزوحهم سويّاً، لا سيّما بعدما استُشهِدَت والدتُها شمال قطاع غزة وتركتها تعاني آلامَ فقدها، فقرر والدها النزوح مع عائلتها وبناته الثلاث جنوب قطاع غزة، فقد فرّقتهم غدر آلة الحرب الإسرائيلية عندما استهدفتهم وبقيت وحيدة، تبحث بين الجثث المتناثرة عن إحدى أخواتها اللواتي رافقنها في رحلة العذاب والفراق الأليم.
وأوضحت إيلين لـ"الاستقلال"، والدموع تُغرِق وجهها، إنها وجدت أختها تولين بين كومة حجارة، وباتت الاثنتان تصارعان معًا بحثًا عن طوق نجاة، حتى افترقت طرقهما عن بعضهما بعضًا، مبينة أنها حُرِمَت من حضن أسرتها حتى باتت تقطن في ملجأ يحتويها، بعدما كانوا ينعمون بأسرة دافئة ومطمئنة.
بعد شهرين متتالين من المعاناة وتفكير إيلين بشقيقتها، التقت الأختان بعدما تمّ التحرّي عن وجود أختٍ لها مفقودة وعلى قيد الحياة عبر الجهات المختصّة، وتسليمها لنفس الملجأ الذي تقطن فيه، فأصبحتا تتشاركان الحزن والفقد برحيل ذويهما، وحرمانهما من الحضن الذي كان يهوِّن عليهما كلَّ الصعاب معًا.
أمّا الطفل محمد (14 عامًا)، الذي أفاق من غيبوبته بعد إصابته عبر حاجز الاحتلال مع عائلته، وحتى هذه اللحظات لا يعرف أي شيء عنهم، إنْ كانوا قد استُشهِدوا أو اعتقلهم جيش الاحتلال عندما نزحوا قسراً في شهر مارس الماضي، وقام جيش الاحتلال حينها بقصف النازحين بقذائف مدفعيته، ومن هَول المشهد، تفرقوا عن بعضهم ولم يعُد يرى أحدهم الآخر.
لن ينسى محمد أبدًا نظرات أهله له وتمسّكهم بأيديهم المرتجفة ببعضها بعضاً؛ خوفاً من أن تفرّقهم آلة الموت، لا سيما أنه الابن الوحيد لوالدته، مبيناً أن آخر كلمات نطقتها والدته قبل استهدافهم لا تزال عالقة في ذاكرته، عندما طلبت منه ألّا يفترق عنها، ومنذ تلك اللحظة لا يعرف أيّ شيء عنهم، ومصيرهم ما يزال مجهولًا.
يوضّح محمد لـ"الاستقلال" أنه بعد تعافيه من إصابته، تمّ وضعه في ملجأ خاص للأطفال الذين تفرقوا عن ذويهم خلال رحلة النزوح المريرة، بعدما كان يعيش في كَنَف أسرة تسنده وتشعره بدفئها وحنانها، حتى بات يحمل أوجاعاً تفوق عمره، وأمنيته أن يجتمع مع ذويه أو يعرف أيّ شيء عنهم.
وأكدت إحدى المسؤولات في أحد الملاجئ التي تعتني بأطفال قطاع غزة النازحين دون أقاربهم أو ذويهم، أنه وصل إلى الملجأ الذي تعمل فيه حالياً ما يقارب 86 طفلاً، يتم تقسيمهم حسب نظام المؤسسة إلى "طفل منفصل" أي أن أهله في الشمال وهو نازحٌ بالجنوب وحده، مثل الأطفال الذين زجّ بهم الاحتلال من دوار النابلسي خلال فترة مجاعة الطحين إلى الحاجز، أو طفل دخل المنطقة الوسطى دون أهله وانفصل عنهم دون أن يعرف مصيرهم، و"طفل غير مصحوب" الذي لا يوجد له أهل أو استُشهِدَ جميعهم أثناء عبورهم الحاجز العسكري الإسرائيلي.
تقديم الرعاية لهم
وقالت المسؤولة التي لم تفضّل الكشف عن اسمها لـ"الاستقلال"، إن الأطفال يصِلون إلى الملاجئ الخاصة برعايتهم عن طريق نقطة تابعة للهيئة الطبية والصليب الأحمر موجودة عند مدخل النصيرات في منطقة تُعرَف باسم (تبه النويري)، أيّ طفل يتخطى الحاجز يمر عبرها تلقائياً، وبعدها يتم تحويلهم مباشرة إلى مستشفى ناصر الطبي في خان يونس وتتراوح الأعمار بين يوم واحد حتى 17 عاماً، مضيفةً أنه يتم التنسيق مع وزارة التنمية عبر ممثلين لهم للتقصّي عن مثل هذه الحالات، وبعدها يتم احتضان الطفل داخل المؤسسات المعنية بهم.
وأشارت إلى أنه بعد دمج الطفل بالمؤسسات، يتم تقديم الرعاية الصحية والجسدية والخدمات الأساسية من مأكل ومشرب وإيواء يُعتبر مؤقتاً، بالإضافة إلى مصروف شهري بقيمة ألف شيكل، موضحة أنه بعد عملية الاحتضان، تبدأ عملية البحث عن أقارب للطفل من الدرجة الأولى، وإن لم يوجد، يتم البحث عن الدرجة الثانية كالأعمام والعمّات أو الخالات، وفي حال وجود أقارب يتم دمجه مع العائلة الأقرب.
وبيّنت أن بعض الحالات التي وصلت إلى المؤسسة كانت من أطفال الصم، حيث تم استقبال طفل يبلغ من العمر ما يقارب 12 عاماً، اعتقله جيش الاحتلال عبر الحاجز العسكري لفترة ليست بالطويلة، وتم معرفة ما حدث معه ومعلوماته الشخصية التقريبية عن طريق الرسم، وبعد التحري تم التواصل مع والده الذي كان يعتقد أن ابنه قد استُشهِد، وتم تسليمه له بعد 6 شهور من المعاناة، وطفل آخر بلغ من العمر 3 شهور، وبعد البحث عن أهله تم تسليمه إليهم، وكان قد بلغ عمره 7 شهور، وبعض الأطفال تم تسليمهم لأهلهم بالشمال بالتنسيق مع الصليب الأحمر.
وأوضحت أن المؤسسة تقدم الدعم النفسي والترفيهي لهؤلاء الأطفال، وتعقد العديد من الأنشطة التي تسهم في تحسين حالتهم النفسية، وتوفر لهم جميع احتياجاتهم الأساسية، بالإضافة إلى تقديم الدعم المعنوي، والمادي والاجتماعي، في محاولة لسدّ احتياجاتهم التي كانت توفرها لهم أسرهم.
وفقًا لتقارير منظمة اليونيسيف ووسائل إعلام موثوقة، يوجد ما لا يقل عن 17,000 طفل في قطاع غزة قد انفصلوا عن ذويهم أو يعيشون بدون عائلتهم نتيجة الحرب المستمرة، ويشمل الأطفال الذين فقدوا أحد الوالدين أو كليهما بسبب القصف، أو من اعتُقل والداه، أو من لا يزال والداه في عِداد المفقودين، ويعاني هؤلاء الأطفال من صدمة نفسية حادة وظروف معيشية صعبة للغاية.
التعليقات : 0