السابع والعشرون من يناير .. عيد حب فلسطين

السابع والعشرون من يناير .. عيد حب فلسطين
أقلام وآراء

بقلم : حماد صبح

« أسرع ! سترى ما يشرح صدرك . « ، نصحني من فوق دراجته التي كان يسرع بها عائدا إلى القرية . إنه جار . فهمت ما يقصده ، وكنت ألمح بعضه على شارع صلاح من بين بقايا البيوت المقصوفة والأشجار المجروفة . إنه مشهد ، أو قل مشاهد العائدين في اتجاهي الشارع شمالا وجنوبا ، والأهم المتجهون شمالا نحو مدينة غزة ومدن الشمال . أشرق ضوء الفرح الأكبر واسعا ساطعا ؛ فرح عودتهم إلى ديارهم التي شردهم منها جيش القتل والخراب . تسرع خطاي . يلاقيني ناس من كل الأعمار في سبيلهم إلى قريتنا . منهم من عاد قبل بدء الهدنة أو بعدها ، ومنهم من يعود اليوم . الكل فرح ، الكل متحمس .
ما أحلى الفرح والحماس والاستبشار بعد الحزن والغم والحيرة وموت الشعور بالأمن ! الفرح والحماس والاستبشار والأمن نعم وهبها الله _ تعالى _ عباده حقا صافيا وافيا لا يسلب ، وليس لأحد أن يكدره . الشعب الفلسطيني نكب في لباب حقه هذا . حرمه غزاة وطنه هذا الحق الذي لا حياة في غيبته أو تشوش الاستمتاع به .
اقتربت من الشارع . دموع الفرح تترقرق في عيني . انبثقت من قلبي دموع . سأمشي أكثر من ثلاثة كيلومترات إلى مبتغاي . الساعة الحادية عشرة وحفنة دقائق . ما من أمل في ركوب أي سيارة إليه . سيارات من كل الصنوف والحجوم تحمل العائدين مع أثاثهم الذي استعانوا به في مواضع تشردهم البائسة الرهيبة الأحوال . بعضه فوق السيارات ، وبعضه في حقائبها ، وبعضه في مقاطير صغيرة ومتوسطة مشدودة إلى مآخير السيارات .
وعائدون مع أثاثهم في مركبات الدواب . في منتصف سبيل مقصدي على صلاح الدين توقفت سيارة جواري ، وقفز منها أحد أبنائي ، وقبل ظاهر يدي ، ودعاني للركوب . يعلم غاية مقصدي . ركبت جواره في المقعد الأمامي .
نزلت قرب مدخل الشارع الذي سيقودني إلى تلك الغاية . سرت فيه . سيارات تؤم شارع صلاح الدين في الجهة الشرقية من المكان محملة بالعائدين وأثاثهم المهلهل البائس . فوق جانبي الشارع مخلفات مرعبة السوء والبؤس من آثار الأكواخ التي قطنها المشردون . أي حياة كانت لهم ؟! يا لهول سطوة البؤس الذي حواهم وطواهم ! كيف امتشقوا سيف الصبر عليه شهورا طوالا ثقالا ؟! أهو قدر الإنسان الفلسطيني أن يكون مشردا مبتئسا مهددا بالقتل ومعيق الإصابات ونازفات الجراح الباترات للأعضاء ؟! في المكان الذي قصدته طفقت أتابع على الشاشة صور الفرح على شارع الرشيد وفي مفرق الشهداء الذي يسميه العدو نيتساريم ، ويسايره أكثرنا في التسمية .
هذا يوم من أيام الوطن المجيدة المبهجة لمحزون القلوب ، وما أكثرها في قطاع غزة ! انسحق مخطط العدو لتهجير أبنائه بدءا بالشمال ومدينة غزة . الميناء العائم ، وخطة الجنرالات ، والإعلان عن تكليف شركة ببدء الاستيطان اليهودي في الشمال . العائدون المتعبون يكبرون حامدين الله _ تبارك وتعالى _ على فرحة العودة إلى مرابعهم الحبيبة إلى أرواحهم . المرابع التي ورثوها من أسلافهم أجيالا تترى على حقب الأزمان ، ويعتزمون من قلوبهم وحرارة دمائهم أن يورثوها أبناءهم وأحفادهم أجيالا تترى حتى يرث الله _ عز وجل _ الأرض ومن عليها . وتأتي الصورة الأخرى التي نتوقعها . صورة الصدمة الفاجعة والرعب المستحكم وبؤس القلب وكسر الروح في الجانب الإسرائيلي . الطائش المتشنج بن غفير يسخر غاضبا متحرقا من نتنياهو بأن صور فرح الفلسطينيين العائدين تنفي انتصاره المطلق الذي لبث مدى الحرب يعتزم احتيازه ، وفي لبابه القضاء على حماس ، مسئول يخبر صحيفة إسرائيلية أن خطة كيانه التعس العاثر بعد فشل التهجير القسري هي التهجير « الطوعي « ! مستوطنو الكيان في السوشيال ميديا منصعقون من حماس العائدين وطغيان فرحهم ، منذهلون من صلابتهم التي جلَوها عاتية حديدية في الحرب الفتاكة الرهيبة الأهوال . حقا ما قاله رب العزة في كتابه الحكيم أنهم لا يعقلون ولا يفقهون . في خمسينات القرن الماضي قال الكاتب الفلسطيني إميل حبيبي لبن جوريون حين تعجب من تسلل بعض المهجرين الفلسطينيين عائدين إلى قراهم رغم قتل القوات الإسرائيلية لمن تضبطه في تسلله : « أنت لا تعرف حب الوطن . « .
قلت لمن معي في المكان الذي قصدته : « ترامب الفظ الجهول يشاهد الآن بركان الفرح الفلسطيني . عساه أن يجد من مستشاريه من ينصحه بالكف عن هذيانه الجنوني المتوحش لتهجير مواطني قطاع غزة . « . لا يصر مثل هذا الهراء الهاذي عن ذي عقل سليم وفهم قويم ، بل لا يصدر عن عقل معتوه وفهم سقيم . السابع والعشرون من يناير عيد حب فلسطين الحبيبة ، فليكن عيدا وطنيا سنويا نجسد فيه صورا من هذا الحب . رحم الله شاعرنا محمود درويش لقوله : « وطني ليس حقيبة وأنا لست مسافر = إنني العاشق والأرض الحبيبة « .

التعليقات : 0

إضافة تعليق