غزة / دعاء الحطاب:
في خيامٍ ممزقة تُغرقها مياه الأمطار، وغرفٍ إسمنتية باردة بفعل الرطوبة الشديدة، وزنازين تفتقر إلى أدنى مقومات التدفئة والفراش والأغطية والملابس الشتوية، يواجه الأسرى الفلسطينيون المنخفضات الجوية القاسية بأجسادٍ هزيلة أنهكها التعذيب وسوء التغذية كماً ونوعاً، حيث تُقدَّم لهم وجبات باردة ونيئة تفتقر للقيمة الغذائية.
ومع تدني درجات الحرارة، تحولت الظروف الجوية إلى وسيلة عقاب قاسية، تُستخدم للانتقام من الأسرى، إذ يتم عزلهم في غرفٍ وخيام شديدة البرودة، بلباسٍ واحد فقط، مع فرشات وأغطية خفيفة للغاية لا توفر أي حماية من الصقيع، ما جعلهم فريسة سهلة لقسوة الشتاء.
وتأتي هذه الظروف في إطار استمرار سياسة الإهمال الطبي المتعمد، وإغلاق “الكانتينا”، والحرمان من زيارات الأهالي والمحامين واللجان الحقوقية، إلى جانب الاكتظاظ وعدم الاستجابة للاحتياجات الأساسية للأسرى، وفق مختصين.
ويعاني الأسرى من مرارةٍ قاسية وسط صمتٍ دولي مطبق، جعل من المجتمع الدولي والمؤسسات القانونية مجرد شهود على جرائم الاحتلال المتواصلة بحق الحركة الأسيرة.
وبحسب معطيات المؤسسات المعنية بشؤون الأسرى، يُقدَّر عدد الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال بنحو 9500 أسير، بينهم قرابة 350 طفلاً و49 أسيرة، إضافة إلى أكثر من 3500 معتقل إداري محتجزين دون تهمة أو محاكمة، في مخالفة صريحة للقانون الدولي.
الأكثر قسوة
أكد المستشار الإعلامي لهيئة شؤون الأسرى والمحررين، حسن عبد ربه، أن فصل الشتاء الحالي يُعد الأقسى والأشد على الأسرى والأسيرات على مدار سنوات النضال الفلسطيني، نتيجة الإجراءات التي تفرضها حكومة الاحتلال على الأسرى منذ السابع من أكتوبر 2023.
وقال عبد ربه، في حديثه لـ”الاستقلال”، إن جميع السجون الإسرائيلية تفتقر إلى الفراش والأغطية المناسبة من حيث العدد، في ظل الزيادة الكبيرة في أعداد الأسرى، حيث يضطر بعضهم لافتراش الأرض، دون توفر الإمدادات اللازمة من فرش وأغطية تتناسب مع شدة المنخفضات وبرودة الطقس.
وأضاف أن السجون تفتقر بشكل كامل لأي وسيلة تدفئة، إلى جانب الطبيعة الإنشائية المأساوية لأماكن الاعتقال من حيث الرطوبة والبرودة، كونها مباني ومنشآت قديمة جداً.
وأوضح أن إدارة مصلحة السجون صادرت، منذ أكتوبر 2023، جميع الأجهزة الكهربائية ووسائل التدفئة، إضافة إلى مصادرة الملابس والأغطية الخاصة بالأسرى، ولم تُبقِ سوى غيارٍ واحد لكل أسير وبعض الأغطية البسيطة، إلى جانب تقليص كميات الطعام إلى الحد الأدنى وسوء نوعيته، وإغلاق الكانتينا بشكل كامل، ومنع الزيارات العائلية، وعرقلة دخول اللجنة الدولية للصليب الأحمر إلى المعتقلات، ما فاقم معاناة الأسرى وآلامهم.
وبيّن أن الظروف الجوية تحولت إلى أداة عقاب مضاعفة، حيث يُعزل الأسرى في بيئات اعتقالية قاسية للغاية، بعضهم في خيام وآخرون في زنازين عزل انفرادي، كما تُعد عمليات نقل الأسرى بين السجون خلال المنخفضات الجوية رحلة عذاب وانتقام حقيقية.
وأشار إلى أن المعاناة تتضاعف لدى الأطفال وكبار السن والمرضى الذين يعانون من أمراض مثل الروماتيزم وأمراض الرئة والربو والقلب، والتي تتفاقم بفعل البرد، مؤكداً أن البيئة الرطبة تساعد على انتشار الأمراض الجلدية والموسمية كالإنفلونزا والرشح والسعال ونزلات البرد، ما يخلق حالة عدوى واسعة في ظل استمرار سياسة الإهمال الطبي.
وأكد أن الاحتلال يتعمد حرمان الأسرى من أبسط حقوقهم الإنسانية، بما فيها الأغطية والملابس الشتوية والزيارات والكانتينا والغذاء، كشكل من أشكال التعذيب الجماعي والفردي، إلى جانب سياسة الإخفاء القسري بحق معتقلي قطاع غزة، واستمرار العزل الانفرادي بحق قيادات وكوادر الحركة الأسيرة.
ونوه إلى أن الهجمة الإسرائيلية على الأسرى تتكرر سنوياً، إلا أنها تصاعدت بشكل غير مسبوق خلال العامين الأخيرين، وانعكست تداعيات ما جرى في السابع من أكتوبر 2023 بصورة كارثية، ما أدى إلى استشهاد 110 أسرى نتيجة التعذيب أو الاعتداء الجسدي أو الإهمال الطبي، وفق اعترافات جيش الاحتلال.
وشدد على أن الأسرى يتطلعون إلى كل صوتٍ حر وشريف للوقوف إلى جانبهم، ونصرة قضيتهم، ونقل معاناتهم إلى العالم، أملاً بتشكيل حراك حقيقي ضد حكومة الاحتلال، يتطلب جهداً دبلوماسياً وسياسياً وقانونياً وإعلامياً وشعبياً وميدانياً.
سياسة ثابتة
من جانبه، يرى مدير مركز فلسطين لدراسات الأسرى، رياض الأشقر، أن معاناة الأسرى في فصل الشتاء ليست ظرفية أو طارئة، بل تأتي ضمن سياسة إسرائيلية ثابتة تهدف إلى زيادة الضغط النفسي والجسدي عليهم، وتعميق أوجاعهم لكسر إرادتهم، عبر حرمانهم من أبسط حقوقهم.
وأوضح الأشقر، في حديثه لـ”الاستقلال”، أن الأسرى يعانون نقصاً حاداً في الأغطية والملابس الشتوية، حيث لا يمتلك الأسير سوى بطانية واحدة وجاكيت واحد لا يكفيان لمواجهة البرد القارس، إلى جانب الغياب التام لوسائل التدفئة، بما فيها المياه الساخنة.
وأشار إلى أن بعض السجون تقع في مناطق شديدة البرودة، ما يجعل الحياة داخل الزنازين شبه مستحيلة، خاصة في ظل الرطوبة العالية والجدران الإسمنتية الباردة، مؤكداً أن الفئات الأضعف من مرضى وكبار سن وأطفال ونساء هم الأكثر تضرراً.
وأكد أن هذه الظروف تندرج ضمن سياسة الإهمال الطبي المتعمد، وإغلاق الكانتينا، والحرمان من الزيارات، والاكتظاظ، وعدم تلبية الاحتياجات الأساسية للأسرى.
واعتبر أن ما يتعرض له الأسرى يشكل “جريمة إنسانية منظمة” تستوجب تحركاً عاجلاً من المؤسسات الدولية، للضغط على الاحتلال لإلزامه باحترام القانون الدولي، وتوفير الحماية القانونية والإنسانية للأسرى، لا سيما خلال فصل الشتاء.
وختم بالتأكيد على أن استمرار الصمت الدولي يمنح الاحتلال غطاءً لمواصلة انتهاكاته، مطالباً بتدخل فوري من المنظمات الحقوقية الدولية لوقف سياسة العقاب الجماعي، وضمان الحد الأدنى من شروط الحياة داخل السجون.


التعليقات : 0