العدد (2972)

مرحلةُ الإعمَارِ وتوابِعُ الدَّمار

مرحلةُ الإعمَارِ وتوابِعُ الدَّمار
رأي الاستقلال

بقلم رئيس التحرير/ أ. خالد صادق

يدٌ تهدمُ ويدٌ تَبني، يدٌ تُدمِّر ويدٌ تُعمِّر، يدٌ تُزيل ويدٌ تُقيم، معركة الفلسطينيين لا تنتهي بانتهاء العمل العسكري الغاشم، إنّما تمتد من مرحلةٍ إلى أخرى، ومن مستوىً إلى مستوىً آخر، ومن محطةٍ إلى محطةٍ أخرى، اليوم يخوض الشعب الفلسطيني معركة الإعمار بعدما دخلت التهدئة أيّامَها الأولى، وهذه المعركة فيها كثيرٌ من التحدّيات، فالتحدّيات عديدة ومتنوعة؛ لأنّ الاحتلال كان يهدف من وراء هذا العدوان الهمجيّ وحرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة اقتلاعَ الشعب من جذوره وتهجيره من هذه الأرض، فهدمَت أكثر من ٧٠% من بيوت الفلسطينيين واقتلعت الحجر والشجر، وأهلكَت الحرث والنسْل، ودمّرت البُنية التحتية في مُدن القطاع، وحجم الدمار في قطاع غزة غير مسبوق، وقد قدّرت منظماتٌ حقوقية وإنسانية ودولية أن مرحلة الإعمار ستستمر لسنوات، وتتطلّب توفيرَ أموال طائلة لإعادة إعمار قطاع غزة بعدما دمّرَ الاحتلال فيه كلَّ شيء، وعندما نقول "كلَّ شيء" فهي كلمة تدلُّ على الحقيقة الواضحة وضوح الشمس، فالاحتلال دمَّرَ كلَّ شيء وكان يتعمّد ذلك، وهو مخطَّط ممنهَج ومقصود، فيه غِلٌّ وانتقامٌ وحقدٌ دفين لدى هذا الكيان المجرم الذي ينظر إلى الفلسطيني على أنه لا شيء، وينظر لنفسه أنه كلُّ شيء، وهو يتعامل مع الفلسطيني بعقلية الانتقام والاستعباد ويستسهل إيذاءَهُ أو هدمَ منزله أو تهجيره وتشريده، ويتنصّل في سبيل ذلك من كلّ صفات الإنسانية ولا يحتكم لشرائع أو قوانين، إنّما يخضعها جميعاً لشريعته النازية الدموية القذرة. 

 

المقاومة الفلسطينية حدّدت شروطها لأجل التوقيع على اتفاق تهدئة مع الاحتلال الصهيوني عبر الوسطاء، ومن بين هذه الشروط: إدخال مواد الإعمار لإزالة توابع الدمار الهائل الذي خلّفه الاحتلال الصهيوني، والمعروف أنّ الاحتلال يمنع إدخال مواد الإعمار إلى قطاع غزة، وكان لا يسمح بدخولها إلّا بنظام (السيستم) وفق قوائم بأسماء المستفيدين، تُعرَض على الاحتلال كيّ يسمح بإدخال مواد الإعمار لمَنْ أراد إعادة بناء بيته أو ترميمه، وأمام هذا الفعل غير الطبيعي وغير المسبوق وحجم الدمار الهائل، أرادت المقاومة تغيّير الأمر بإجبار الاحتلال على إدخال مواد الإعمار، فوضعت من ضمن شروطها إدخال نحو ستمائة شاحنة يومياً إلى قطاع غزة، منها أعدادٌ كبيرة من شاحنات مواد البناء والإعمار، فالمقاومة تدرك تماماً أساليب الاحتلال وتنصُّله من التزاماته؛ لذلك أرادت المقاومة تفويت الفرصة على الاحتلال، فوضعت ضمن شروطها الأساسية للتوقيع على التهدئة السماح بإدخال مواد الإعمار دون قيود، وفرضت على الوسطاء التعهُّد بضمان إدخال المساعدات، وتسخير أموال المساعدات لإعمار غزة، وأنْ تكون وتيرة الإعمار سريعة؛ لأنّ حجم الكارثة كبير جدّاً، والمطلوب توفير أماكن لإيواء مئات آلاف الفلسطينيين المشرّدين من بيوتهم والذين باتوا بلا مأوى، فتكفي حقبة الحرب التي استمرت لأكثر من خمسة عشر شهراً والتي أرهقَت الشعب الفلسطيني وزادت من معاناته إلى حدٍّ كبير.

 

الاحتلال حاول قتلَ كلّ مناحي الحياة في قطاع غزة؛ حتى يُجبر الغزيِّين على الهجرة وترْك بيوتهم وأراضيهم وتنفيذ مخطّط حكومة الاحتلال الذي جهرَ به ما يُسمّى بوزير المالية بتسلئيل سموتريتش، ووزير الأمن القومي الصهيوني إيتمار بن غفير، بإعادة الاستيطان في قطاع غزة، واحتلاله وتهجير سكانه منه، وكانت ما تُسمَّى بـ"خطة الجنرالات" جزءاً مهمّاً واستراتيجياً في مخطّط التهجير القسري لشعبنا من أراضيه، لكن أسطورة الصمود والتحدّي كانت تتجذّر شيئاً فشيئاً لدى الفلسطينيين، ورفض الغزيِّين تركَ أراضيهم وقدّموا في سبيل ذلك عظيم التضحيات، وكانت حرب الإبادة الصهيونية على قطاع غزة تأخذ أشكالاً متعددة، فتارة القتل بكلّ ترسانة الاحتلال العسكرية، وتارة أخرى بحرب التجويع والتعطيش، وتارة بنشر الأمراض والأوبئة بين الفلسطينيين، وتارة أخرى بمنع إدخال الأدوية والمستلزمات الطبية، وهدم المستشفيات واستهداف الطواقم الطبية، وهذا كان يهدف للتهجير، لكن فشل التهجير يواجه اليوم بإقرار الإعمار وإجبار الاحتلال على التعامُل مع ملف الإعمار بجدية؛ حتى لا تتكرّر مأساة حرب ٢٠١٤م التي رواغ فيها الاحتلال وتباطأ في إعمار غزة بشكلٍ منهجيّ ومتعمَّد، فمرحلة الإعمار تعزّز من حالة الصمود لدى شعبنا، وتساهم في التخفيف من حجم المعاناة، وهذا الشعب الذي قدّم كلّ هذه التضحيات، من حقه العَيْش بكرامة، وأن تُخفَّف معاناته، وأن يشعر بالاستقرار، وهذه من عوامل الصمود لدى شعبنا والتي يجب أن تتعزّز باستمرار.

التعليقات : 0

إضافة تعليق