بعد شهور من الصمت

الحراك الأوروبي تجاه جرائم "إسرائيل"..صحــوة متأخــرة أم مراوغــة سياسيــة؟

الحراك الأوروبي تجاه جرائم
تقارير وحوارات

غزة/ معتز شاهين:
بعد شهور من التجاهل الدولي للكارثة الإنسانية المتصاعدة في قطاع غزة، بدأت نغمة الخطاب الغربي تجاه الكيان الإسرائيلي تشهد تغيرًا لافتًا. فمع اشتداد الحصار، واستمرار القصف العشوائي، وازدياد معاناة المدنيين من الجوع والمرض، خرجت بريطانيا وفرنسا وكندا ببيان مشترك يلوّح للمرة الأولى بفرض عقوبات على إسرائيل.
كما أعلن الاتحاد الأوروبي عن مراجعة رسمية لاتفاقية الشراكة مع الاحتلال، بناء على طلب 17 دولة عضو، من بينها إسبانيا وأيرلندا وهولندا. كما صادق البرلمان الإسباني على مقترح لحظر تجارة الأسلحة مع الاحتلال، فيما علّقت المملكة المتحدة مفاوضاتها التجارية معها وفرضت عقوبات على شخصيات ومنظمات استيطانية.
ويرى محللون أن هذا التطور، وإن جاء متأخرًا، يعكس بداية تصدّع في الغطاء السياسي الذي حمى تل أبيب لعقود داخل المحافل الغربية، مشددين على أن ما يجري في غزة لم يعد مجرد مأساة إنسانية، بل تحول إلى فضيحة أخلاقية وقانونية للمجتمع الدولي بأسره، خاصة مع استمرار ازدواجية المعايير الغربية بين ما يحدث في أوكرانيا وبين الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين.
وأجمع هؤلاء في أحاديث منفصلة مع صحيفة "الاستقلال" أمس الأربعاء، أن هذه التصريحات الغربية، رغم أهميتها الرمزية، قد تصطدم بجدار الدعم الأمريكي غير المشروط لإسرائيل، لكنها تفتح في الوقت ذاته الباب أمام إعادة تفعيل أدوات الضغط القانونية والسياسية لصالح الشعب الفلسطيني.
وكان قادة بريطانيا وفرنسا وكندا قد حذّروا في بيان مشترك، يوم الاثنين، من أن دولهم ستتخذ إجراءات إذا لم توقف إسرائيل هجومها العسكري المستمر على قطاع غزة، ولم ترفع القيود المفروضة على دخول المساعدات الإنسانية.
وذكرت الدول الثلاث في البيان، الذي نشرته الحكومة البريطانية، أن "منع حكومة الاحتلال إدخال المساعدات الإنسانية الأساسية إلى السكان المدنيين أمر غير مقبول، ويُعدّ انتهاكًا للقانون الإنساني الدولي".
في موازاة ذلك، طالب وزراء خارجية 22 دولة، من بينها فرنسا وألمانيا وبريطانيا وكندا واليابان وأستراليا، إسرائيل بـ"السماح مجددًا بدخول المساعدات بشكل كامل وفوري" إلى غزة، تحت إشراف الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية.
وجاء في بيان مشترك صادر عن وزارة الخارجية الألمانية، أن الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية "لا يمكنها دعم" الآلية الجديدة التي اعتمدتها إسرائيل لتسليم المساعدات في غزة.
تحرك "متأخر"
من جانبه، اعتبر الكاتب والمحلل السياسي المصري د. حسام فاروق أن البيان المشترك يشكل تحولًا مهمًا في لهجة الخطاب الغربي تجاه الاحتلال الإسرائيلي، قائلاً: "النبرة هذه المرة مرتفعة، وهناك إحراج دولي كبير بسبب مشاهد الموت البطيء والجوع التي يتعرض لها المدنيون في غزة، وخاصة الأطفال".
وأكد د. فاروق، خلال حديثه مع "الاستقلال"، أن ما يحدث في القطاع من تجويع وقصف وحرمان من المساعدات الأساسية يُعد خرقًا صارخًا للقانون الإنساني الدولي، موضحًا أن صمت المجتمع الدولي طوال الأشهر الماضية وضع الدول الغربية في مأزق أخلاقي، خصوصًا عند مقارنته بموقفها الصارم والسريع تجاه الأزمة الأوكرانية.
وأضاف: "ما نشهده من ازدواجية فاضحة في المعايير أحرج الغرب، ودفعه إلى محاولة تجميل صورته المتصدعة. متسائلًا: كيف يتحدثون عن الكرامة وحقوق الإنسان وهم يغضّون الطرف عن تجويع شعب بأكمله؟".
وأشار د. فاروق إلى وجود تحركات أوروبية قد تُترجم إلى خطوات عملية، لافتًا إلى استدعاء فرنسا للسفيرة الإسرائيلية، وتنامي الضغط داخل برلمانات أوروبية لفرض إجراءات ملموسة ضد الاحتلال.
وتابع: "فرنسا وبريطانيا تبدوان أكثر جدية هذه المرة، ومن الممكن أن تتحول التصريحات إلى عقوبات حقيقية، خاصة مع تصاعد الأدلة التي قد تُستخدم ضد إسرائيل في المحاكم الدولية". لكنه شدد على أن إسرائيل، رغم ذلك، لا تزال تشعر بالحماية السياسية والعسكرية من الغرب، خاصة من الولايات المتحدة.
وأشار إلى أن العلاقة الحالية بين رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو والإدارة الأمريكية تمر بتوتر ملحوظ، إلا أن ذلك لا يعني تراجع واشنطن عن التزامها التاريخي بدعم إسرائيل.
وحذر فاروق من أن الرد الإسرائيلي على هذه الضغوط قد يكون شكليًا، قائلاً: "نتنياهو قد يدّعي السماح بدخول المساعدات أو الحديث عن حماية المدنيين، لكن الحقيقة أن كل ذلك مجرد خطوات تجميلية، ولن توقف السياسات الإسرائيلية التي تهدف إلى إعادة احتلال غزة وتصفية فكرة الدولة الفلسطينية".
معايير مزدوجة
من جانبها، رأت المحللة السياسية رهام عودة أن هذه التصريحات تمثل تطورًا لافتًا قد يُمهّد لتطبيق عقوبات اقتصادية فعلية، وإن كانت جزئية ومحدودة، مشيرة إلى أن "الاتحاد الأوروبي وبريطانيا بدآ بالفعل اتخاذ خطوات مثل تعليق اتفاقيات تجارية أو تجميد صفقات بيع أسلحة، في ظل تنامي الغضب الشعبي والحقوقي ضد الجرائم الإسرائيلية في غزة".
وأوضحت عودة لـ"الاستقلال" أن خسائر اقتصادية كبيرة قد تلحق بإسرائيل في حال فرض قيود على صادراتها الزراعية والتكنولوجية إلى أوروبا، كما أن بعض القيادات المتطرفة مثل بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير قد تواجه حظر سفر وملاحقات دولية.
وأكدت أن إسرائيل، وكعادتها، تتعامل مع نفسها كـدولة فوق القانون الدولي، وتستند إلى الحماية الأمريكية، وهو ما يتيح لها مواصلة الحرب في غزة دون اكتراث بالعقوبات أو بالنبذ الدولي.
وقالت عودة: "نتنياهو مستعد للتضحية بصورة إسرائيل الدولية لتحقيق أهدافه السياسية والعسكرية، حتى لو قاد ذلك إلى عزلة غير مسبوقة عن أوروبا".
وشددت على الازدواجية الفاضحة في مواقف الدول الغربية، متسائلة: "كيف يُفرض حصار سياسي واقتصادي خانق على روسيا بسبب غزو أوكرانيا، بينما تُمنح إسرائيل غطاءً سياسيًا كاملاً رغم ارتكابها جرائم حرب موثقة ضد المدنيين العزّل في غزة؟".
وأشارت عودة إلى أن هذه المواقف غير المتوازنة دفعت الشعوب الأوروبية للضغط على قادتهم، لا سيما بعد صدور مذكرات توقيف دولية بحق نتنياهو ووزير دفاعه من المحكمة الجنائية الدولية.
وأكدت أن الدبلوماسية الفلسطينية يجب أن تستثمر هذا التحول في المزاج الأوروبي، وتستفيد من بيانات الاتحاد الأوروبي في الضغط على الإدارة الأمريكية، لمنع تمرير صفقات السلاح إلى إسرائيل، ووقف استخدام "الفيتو" في مجلس الأمن ضد أي قرار يطالب بإنهاء العدوان على غزة.
وأضافت أن من بين السيناريوهات المطروحة على الساحة الدولية إرسال قوات حماية دولية إلى القطاع، وقالت: "بدأت حملات أوروبية على مواقع التواصل تطالب بتدخل دولي لحماية غزة، تحت وسم Protect Palestine، وهو ما يعكس مدى التحول في الرأي العام العالمي تجاه دعم القضية الفلسطينية ورفض الإبادة الجماعية المستمرة".
واختتمت عودة بالتأكيد على أن الشعب الفلسطيني في غزة لا يحتاج فقط إلى إدانات، بل إلى قرارات فاعلة وإجراءات ملموسة تجبر إسرائيل على وقف عدوانها، وفتح المعابر لإدخال المساعدات، ووقف مشاريع التهجير والاستيطان التي تضرب قرارات الشرعية الدولية بعرض الحائط.

التعليقات : 0

إضافة تعليق