الاستقلال - ترجمة
في حين أنه من المرجح أن تكثف تل أبيب قصفها لغزة بعد الهدنة، فإن هذا يخفي حقيقة أن توغلها البري يواجه مخاطر مستقبلية غير مسبوقة.
قبيل غسق يوم 26 تشرين الثاني/نوفمبر، بدأ مقاتلون من كتائب القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، عملية تسليم عدد من الأسرى "الإسرائيليين" تمَّ أسرهم خلال عملية طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول/أكتوبر إلى الصليب الأحمر الدولي. تمَّت عملية نقل هؤلاء النساء والأطفال في قطاع غزة وسط ما بدا أنه عرض أمني. وصل مقاتلو القسام في سيارات الدفع الرباعي وانتشروا حول الموقع وهم يرتدون الزي الرسمي الكامل ويحملون الأسلحة. وسط حشد من المدنيين الذين يهتفون للمقاومة، تمَّت عملية نقل الأسرى "الإسرائيليين" بسلاسة وهدوء.
جرى هذا الحدث في ساحة فلسطين بمدينة غزة في اليوم الثالث من الهدنة التي أعقبت حرب استمرت 49 يوماً. طوال فترة الحرب، تعرضت مدينة غزة لحصار خانق وهجوم جوي ومدفعي "إسرائيلي" غير مسبوق، لم يسبق له مثيل منذ العام 1982 على الأقل.
كما جرت عملية التسليم في ساحة فلسطين بعد أكثر من شهر من بدء الجيش "الإسرائيلي" عمليته البرية، التي يهدف من خلالها إلى احتلال مدينة غزة ومناطق شمال القطاع كافة وتدميرها وتهجير سكانها بشكل دائم. لكن مشهد مقاتلي القسام وهم يقفون بثقة في ساحة فلسطين يوم 26 تشرين الثاني/نوفمبر، أوحى لجميع الحاضرين أنه لم يلحق بهم أي أذى من الحرب "الإسرائيلية".
نقل المقاتلون الأسرى الإسرائيليين من مخابئهم المختلفة ومواقع التجمع المتفق عليها إلى الساحة، مع التأكد من عدم اكتشاف هذه البيوت الآمنة. أصدر أحدهم الأمر، ونفذه آخرون بسلاسة، في منطقة جغرافية واضحة للغاية تقل مساحتها عن 150 كيلومترًا مربعًا. ولنتذكر أن "إسرائيل" والولايات المتحدة خصصتا موارد استخباراتية هائلة على مدى الأسابيع الستة الماضية للكشف عن الشبكة الواسعة من أنفاق حماس، واكتشاف أماكن وجود السجناء.
تكشف هذه الصورة، إلى حد كبير، عن نتائج العملية البرية "الإسرائيلية": مذابح للمدنيين وتدمير وافر للبنية التحتية، ولكن مع ضرر بسيط للبنية العسكرية للمقاومة الفلسطينية. صحيح أن عدداً من قادتها قُتلوا ـ وكان آخرهم القائد الشمالي لفصيل القسام وعضو المجلس العسكري أحمد الغندور ـ إلا أن نظام القيادة والسيطرة التابع لها ما زال يعمل بفعالية.
الحدود البرية "لإسرائيل"
الدليل الآخر على ذلك يكمن في عدم قدرة جيش الاحتلال على اختراق كامل شمال غزة دون عوائق. تسبق "إسرائيل" تحركاتها البرية بغارات جوية مكثفة، ثم قصف مدفعي. بعد تدمير كل شيء في طريقها، تبدأ دباباتها في التقدم. يكاد يكون من المستحيل مواجهة الدبابات عند دخولها، لأن النيران الجوية تطهر مساحات على بعد 500 متر أمامها، فيما تمهد القذائف المدفعية الطريق على بعد 150 متراً أمام الوحدات البرية.
لكن كلما أمكن، يطلق المقاومون صواريخ مضادة للدروع من نوع كورنيت أو كونكورس أو ما شابهها، يصل مداها إلى أكثر من ألف متر. بعد وصول الدبابات إلى هدفها المحدد، يخرج مقاتلو المقاومة كالأشباح من تحت الأرض أو الركام ويطلقون عليها قذائف مضادة للدروع، عادة ما تكون قذائف الياسين محلية الصنع، يصل مداها إلى أقل من 150 مترًا. أو، بدلاً من ذلك، يقترب مقاتل جسدياً من الدبابات "الإسرائيلية" ويزرع قنبلة لاصقة تنفجر بنفس الطريقة التي تنفجر بها قنبلة يدوية.
لا ينتهي عمل المقاومة عند هذا الحد. إن لم تتراجع الدبابات، واستقر جنود الاحتلال، فسيتم مهاجمتهم بنيران الرشاشات أو العبوات الناسفة. يقوم المقاتلون الفلسطينيون بتصوير العديد من هذه العمليات، ويتم تسليم اللقطات إلى غرفة العمليات، التي تقرر ما سيتم نشره.
من الواضح أن منظومة القيادة والسيطرة في المقاومة لا تزال تعمل بفعالية.
أكبر من حرب 1973؟
بدأت العملية البرية "الإسرائيلية" في شمال قطاع غزة بعد ثلاثة أسابيع من الهجمات الجوية الأولية وبعد التحضيرات التي قامت بها قوات الغزو.
تم حشد أكثر من 100 ألف جندي حول قطاع غزة الذي تبلغ مساحته الإجمالية حوالي 360 كيلومترا مربعا.
ينتمي معظم هذه القوات إلى القوات النظامية، وقد استدعت إسرائيل 300 ألف جندي وضابط احتياطي إضافي - وهو عدد أكبر من عدد جنود الاحتياط الذين استدعتهم روسيا للقتال على جبهة يبلغ طولها 1500 كيلومتر.
في شمال غزة، نشرت "إسرائيل" حتى الآن ألويتها وكتائبها القتالية النظامية (غير الاحتياطية): لواء جولاني، لواء ناحال، لواء غفعاتي، لواء المظليين، قوة العمليات الخاصة "شييطت 13"، وحدة عمليات الأركان الخاصة (سايرت متكال)، وغيرها. كل القوات النظامية التي استطاع جيش الاحتلال حشدها، انتشرت بكامل طاقتها في قطاع غزة منذ بداية الأسبوع الرابع من الحرب.
بالإضافة إلى ذلك، حشدت "إسرائيل" نصف مخزونها من المدفعية، ونصف قوتها الجوية، وألف مركبة مدرعة، بما في ذلك الدبابات وناقلات الجنود.
وتشير تقديرات المقاومة الفلسطينية إلى أن إجمالي عدد القوات النظامية والاحتياطية المنتشرة على حدود قطاع غزة، وداخله، يفوق عدد القوات "الإسرائيلية" التي شاركت في حرب 1973 في الهجمات المضادة على الجبهتين السورية والمصرية.
وفي هذه الحرب، لم يحاول "الإسرائيليون" اختراق غزة من "المحاور التقليدية"، أي من الشرق باتجاه حي الشجاعية في مدينة غزة. بدأ توغلها في وسط القطاع، في المنطقة المسماة “وادي غزة” ذات الكثافة السكانية والحضرية المنخفضة، ما يعني أن قدرة المقاومة على مواجهتها منخفضة أيضاً.
تمكن جيش الاحتلال من دخول هذه المنطقة، من الشرق إلى الغرب، ليفصل فعلياً شمال القطاع عن جنوبه. ومع ذلك، وحتى دخول الهدنة حيز التنفيذ، ظل مقاتلو المقاومة ينفذون عمليات ضد القوات "الإسرائيلية"، خاصة في منطقة جحر الديك.
أما المحور الآخر للتوغل فكان في منطقتي بيت لاهيا وبيت حانون شمال غزة. وحتى 24 تشرين الثاني/نوفمبر، حين أُعلنت هدنة مؤقتة، لم يتمكن جيش الاحتلال من السيطرة على المنطقة، وواصل مواجهة العمليات المميتة التي تنفذها مختلف قوات المقاومة.
المحور الثالث والأساسي للتقدم هو في غرب غزة، على طول الخط الساحلي للقطاع الشمالي. تقدمت الدبابات "الإسرائيلية" من الشمال والوسط، على طول ساحل البحر الأبيض المتوسط، لتتوغل حتى مستشفى الشفاء ومراكز حكومية أخرى، مثل مبنى المجلس التشريعي.
شاطئ غزة.. نقطة ضعف المقاومة
لا توجد على طول الشريط الساحلي أنفاق مقاومة دفاعية، بسبب طبيعة الأرض وقلة السكان والبنية التحتية، واحتمال تسرب مياه البحر إلى الأنفاق. أقصى ما كان يمكن للمقاومة أن تحققه، دفاعياً، في هذا المحور، هو صد الإنزال البحري، وليس وقف تقدم الدبابات أو الضربات الجوية المدمرة التي تسبقها.العقدة الأساسية في هذا المحور هي مخيم الشاطئ الذي لم يتمكن جيش الاحتلال من دخوله بسبب شراسة المقاومة هناك.
اعترفت تل أبيب حتى الآن بمقتل أكثر من 70 جنديًا وضابطًا، وإصابة مئات آخرين. وتؤكد مصادر المقاومة الفلسطينية أن المواجهة الفعلية مع قوات الاحتلال لم تبدأ إلا بعد دخولها مجمع الشفاء الطبي.
إن تواتر وشدة القصف الجوي والمدفعي "الإسرائيلي" لا يسمح لمقاتلي المقاومة بصد تقدم الاحتلال، حيث أن القوة النارية الساحقة تفجر معظم العبوات الناسفة المخصصة للدبابات أو المشاة وتسد أو تدمر مداخل الأنفاق.
ولهذا، تنتظر المقاومة هدوءاً للقصف ودخول الدبابات وإعادة فتح الأنفاق لتبدأ عملياتها. في هذه المرحلة ينتظر المقاتلون خروج المشاة "الإسرائيليين" من مدرعاتهم لاستهدافهم. سبق أن حدث ذلك في عدد من العمليات على المحورين الشمالي والغربي لتحركات قوات الاحتلال.
تؤكد المقاومة حتى الآن أنها دمرت أكثر من 300 مدرعة "إسرائيلية". تم إخراج بعضها من الخدمة، بينما تم الاحتفاظ بالبعض الآخر في الميدان لإعادة استخدامه. تؤكد المصادر لـ The Cradle أن عدد الخسائر في صفوف القوات "الإسرائيلية"، من قتلى وجرحى، أكبر بكثير مما أعلنته تل أبيب.
والآن، إلى أين؟
قبل هدنة 24 تشرين الثاني/نوفمبر، كان جيش الاحتلال قد استنفد قدرته على المناورة على الأرض، بعد أن نشر غالبية قواته القتالية النظامية في المحورين الشمالي والغربي.
سيتعين عليه البحث عن حلول مبتكرة إذا سعى إلى التقدم نحو المناطق ذات الكثافة السكانية العالية في شمال غزة، مثل مخيم جباليا للاجئين، وحي الزيتون والشجاعية، ومخيم الشاطئ، وغيرها من الأماكن الحيوية. فشل "الإسرائيليون" في الاختراق. هذه المناطق هي نقطة الصفر للمقاومة الفلسطينية، حيث أعدت هذه القوى نفسها – وبنية أنفاقها – لمواجهات شرسة وطويلة الأمد.
السبب الرئيسي وراء موافقة حكومة الاحتلال على هدنة قصيرة هو أن توغلها البري أصاب هذا الجدار، بالإضافة إلى عوامل أخرى مثل الضغط الأمريكي لإطلاق سراح الأسرى الأمريكيين. ببساطة، يحتاج الجيش "الإسرائيلي" إلى إعادة النظر في خططه وتطوير استراتيجيات جديدة للتقدم في الميدان.
من المهم الإشارة إلى أن المعايير المطبقة في النزاعات المسلحة العادية، كما هو الحال في أوكرانيا أو سوريا أو العراق أو السودان، لا تنطبق بالضرورة على قطاع غزة. فحين تظهر خريطة السيطرة سيطرة الجيش الأوكراني على منطقة ما، يكون الجيش الروسي قد انسحب منها، والعكس صحيح.
في غزة، فإن وجود خريطة للجيش "الإسرائيلي" في منطقة ما لا يعني بالضرورة انسحاب قوات المقاومة الفلسطينية منها، إذ لا تملك الأخيرة مدرعات أو تشكيلات تقليدية يمكنها إخراجها من مناطق اجتياح العدو. ببساطة، يختفي مقاتلوها تحت الأرض في انتظار ظهور جنود الاحتلال من دباباتهم ونحو ذلك.
خلاصة القول هي إن الخرائط التي تتداولها حالياً الحكومات ووسائل الإعلام ومراكز الأبحاث والتي تظهر التقدم الميداني "الإسرائيلي" في غزة - سواء أكانت دقيقة أم لا - لا توضح سيطرة "إسرائيل" على الأرض، بل توضح عمق توغلاتها.
في نهاية الهدنة، حتى لو تم تمديدها أكثر، فإن تل أبيب ستعيد إطلاق عملياتها البرية. ستقوم أولاً بتجهيز الميدان بقصف جوي أكثر شراسة من ذي قبل، يهدف إلى تهجير أكثر من 700 ألف مدني بقوا في شمالي قطاع غزة والتأثير على معنويات مقاتلي المقاومة.
من المتوقع أيضاً أن تكون الأخيرة قد درست الواقع الميداني جيداً، وعدلت خططها الدفاعية، وحددت أهدافها بعناية، وأعادت تنظيم خطوطها الدفاعية لمحاربة العدو بكفاءة أكبر وإلحاق أكبر قدر ممكن من الخسائر به.
يتلخص هدف "إسرائيل" في سحق المقاومة في شمال غزة استعداداً للمرحلة التالية من حربها على الجنوب ـ التي قد يتم خوضها بطريقة مختلفة، على المستويين الاستراتيجي والتكتيكي. ما تريده المقاومة هو إجبار العدو على وقف الحرب.
حددت تل أبيب منذ البداية هدفين لحربها بشكل عام، ولعمليتها البرية بشكل خاص: تدمير المقاومة وتحرير الأسرى. أظهر مشهد 26 تشرين الثاني/نوفمبر في ساحة فلسطين، في قلب مدينة غزة، أن المقاومة لا تزال سليمة وقادرة على جباية الثمن من "إسرائيل".
بعد أيام، لا تزال حكومة الاحتلال تطالب بإطلاق سراح الأسرى "الإسرائيليين" وفقًا للشروط التي أملتها المقاومة بشكل أساسي: كان لا بد من تجميد العمليات العسكرية (ومراقبتها بشدة)، وتحرير السجناء الفلسطينيين من الاعتقال "الإسرائيلي"، وبدأت المساعدات تتدفق مرة أخرى إلى قطاع غزة المحاصر.
بعد مرور خمسين يوماً على الحرب "الإسرائيلية" غير المتناسبة على غزة، لا تزال المقاومة الفلسطينية قادرة على فرض إرادتها - على الرغم من المذبحة غير المسبوقة التي ارتكبها جيش الاحتلال بحق أكثر من 20 ألف مدني، وتشريد مئات الآلاف الآخرين، والتدمير الشامل للمنازل السكنية والمستشفيات والمدارس.
حين يستأنف الصراع في الأيام المقبلة، وتبدأ الحرب بين القوات بشكل جدي، قد تفرض المقاومة ثمناً أعلى على "إسرائيل"، وهو ثمن لا يمكن "للإسرائيليين" أن يتحملوه.
------------------
العنوان الأصلي: Israel's ground war conundrum
الكاتب: Hasan Illaik
المصدر: The Cradle
التاريخ: 27 تشرين الثاني / نوفمبر 2023
التعليقات : 0